الأربعاء، ٣١ أكتوبر ٢٠٠٧

الخميس، ٢٥ أكتوبر ٢٠٠٧

تذكار ـ قصة قصيرة

تذكار

قصة محمود البدوى

شارع القلعة شارع تاريخى .. ومن أقدم شوارع العاصمة .. وهو شارع طويل وحافل بمختلف الأشياء والسلع .. ففيه توجد دار الكتب المصرية والمكاتب التى تبيع الكتب القديمة والحديثة ودكاكين التجليد الفاخرة والمطابع الصغيرة .. ومحلات الدباغة بكل أنواعها .. والحوانيت التى تبيع الآلات الموسيقية الشرقية والغربية .. والصور الفوتوغرافية ورسوم الزيت والخردوات بكل أشكالها .. ودكاكين البقالة الصغيرة والكبيرة .. ومحلات الحلوى الشعبية .. والمطاعم الصغيرة .. والحانات .. وكل مايحتاجه الإنسان يجده فى هذا الشارع الشعبى ..
والحانات فى هذا الشارع تقع فى المنطقة التى بين دار الكتب وميدان العتبة .. وهى ليست كثيرة .. ولكنها حافلة بالرواد .. لأنها قريبة من مركز الثقل فى المدينة حيث تتركز كل الأعمال الثقيلة فى شارع الأزهر وشارع الجيش .. فبعد عمل شاق يجد الشيالون والعمال أنفسهم مسوقين بقوة لاتقهر إلى المقاهى والحانات .. لينسوا تعب النهار وكده فى الشاى الأسود والخمر ..
وكان الخواجة تاليدس .. يملك حانة صغيرة فى شارع القلعة .. ولما توفى فجأة اضطرت زوجته .. ايرين .. أن تديرها لتأتى برزق الأطفال .. وبعد شهر واحد من موت زوجها روعت بسيل من الأوراق التى لاتدخل فى حسبانها من الجهات الرسمية .. ومن التجار المتعاملين مع زوجها .. حتى فقدت أعصابها وأدركت أنها لاتصلح لهذا العمل ..
وكان يؤلمها أنها لاتعرف لغة هذه الأوراق ..
وفى كل يومين أو ثلاثة .. كان يدخل عليها العسكرى .. متأبطا .. ملفا قديما متسخا يخرج منه ورقة .. يقدمها لها فى غير مبالاة .. وكأنه يقدم لها صك الموت .. ومرة تكون الورقة من الضرائب .. ومرة أخرى من السجل التجارى ومرة من الأحوال الشخصية ..
وكانت تنظر لهذه الأوراق ببلاهة .. وتحدث نفسها .. هل ترك تاليدس كل هذه التركة المثقلة بالديون لى .. وهو يعرف أننى وحيدة .. ولماذا فعل هذا ..؟
وكانت عيناها تدمعان وهى ترى هذه الأوراق فى بيتها وهى وحيدة مع أطفالها ولا نصير لها ولامعين كانت تبكى بحرقة .. وزاد الحال سوءا لما اشتكاها أحد العمال لمصلحة العمل .. ثم حدث ماشل حركتها تماما عندما توقع عليها الحجز من الضرائب ..
وكان من زبائن الحانة .. رجل فى الأربعين من عمره ويدعى شفيق أفندى .. وكان يأتى فى الليل عادة بعد الساعة الثامنة .. مساء ولا يتخلف ليلة .. ويجلس وحده إلى مائدة ملاصقة للبنك الذى تجلس عليه ايرين ..
وكان يشرب البراندى ونظره عالق بها .. يأخذ جرعة ويضع الكأس كأنه يحتسى فنجالا من الشاى فلاحظها ذات ليلة وهى تخفى دموعها وسألها عما حدث فحكت له ايرين كل ما جرى فى الأيام الماضية ..
وقدمت له آخر ورقة .. تركها لها العسكرى فى الصباح .. وطمأنها شفيق أفندى .. وقال لها باخلاص :
ـ سأقوم بكل الإجراءات .. نيابة عنك .. ولاداعى لأن تشغلى نفسك بهذه الأشياء ..
ـ كم أشكرك .. إن هذه الأوراق روعتنى وحطمت أعصابى .. وأنا لا أعرف أى إجراء .. لا أعرف كيف أحل هذه المشاكل كلها .. لا أعرف شيئا على الإطلاق .. وكل من يؤدى لى خدمة يطلب الفلوس .. وليته يأخذ الفلوس ويأتى بنتيجة .. أنا أرملة مسكينة .. أعمل معروفا انقذنى من هذا العذاب ..
ـ لاتفكرى فى هذه الأشياء من الآن .. سأنهيها كلها .. لاتشغلى نفسك بها .. اعتبرينى كالمرحوم ..
وشكرته بحرارة .. وهى تقدر أن عذابها قد انتهى .. ومن هذه الساعة أشرف شفيق أفندى على كل حاجاتها .. وكان يقوم لها بكل الأعمال التى تتصل بالجهات الرسمية .. ويظل يلف فى النهار كالنحلة حتى يخلصها من كل المتاعب ..
وانزاح عنها الحمل الذى كانت تدور به .. وكان يعذبها .. وتفتحت نفسها للحياة من جديد .. وأخذت تبتسم وتتزين ..
وكان يجلس بجانبها كل ليلة يحادثها .. واطمأنت لصوته .. كما اطمأنت لخدماته .. وكان صوته يشيع فيها الدفء .. ورثت لحاله وأشفقت عليه لما عرفت بعض حياته الخاصة .. عرفت بأنه أرمل تزوج منذ خمسة عشر عاما .. ومكثت معه زوجته اسبوعا واحدا ثم هربت .. ومن وقتها وهو فى نزاع معها فى المحاكم .. لأنها حملت منه وأخلفت بنتا ..
ومن الوقت الذى بدأ فيه شفيق يحادث ايرين عن حياته الخاصة .. وهى تشعر بأنها فى حاجة لأن تتزين .. وأن تخفف من مظاهر الحداد على المرحوم ..
وكانت فى الثانية والأربعين من عمرها ممتلئة الجسم بيضاء البشرة سوداء الشعر .. وكانت تأنس بحديث شفيق كل ليلة .. حتى أصبح جزءا من حياتها .. كان يحدثها عن أحواله وآلامه بقلب يتمزق .. كان تعسا على طول الخط لم يشعر بالسعادة قط .. وقد جرته التعاسة إلى الخمر ..
وكانت ترثى لحاله .. وتجد رابطة خفية قد جمعتها به .. وشدتها إليه .. وعندما كانت تجمع نقودها من خزينتها فى الساعة العاشرة مساء وتنطلق إلى بيتها .. القريب .. فى أول شارع الهدارة بعابدين .. بعد أن تسلم المحل لأحد العمال .. كانت تشعر بأسف .. وتود أن تبقى فى المحل إلى نصف الليل .. لأنها تشعر فى البيت .. بوحشة .. وفراغ .. لم تكن تحس بهما فى الحانة ..
وكان أولادها الثلاثة .. يشغلونها فى الصباح .. وهم ذاهبون إلى المدرسة .. ولكن فى الليل .. وهى راجعة .. من المحل .. كانت تجدهم نياما .. وتجد الخادمة بدرية نائمة أيضا .. وكانت تحس بالوحدة القاسية وبهزة فى أعصابها .. كأن شيئا يتمزق فى كيانها ..
وكانت الليالى دافئة .. ولكنها كانت تحس بالبرودة وبالوحشة وبالعذاب الذى يضنيها ..
وبعد موت تاليدس .. بشهرين اثنين عرض عليها أكثر من رجل الزواج .. ولكنها رفضتهم جميعا .. كانت تعرف أنهم يرغبون فى ايراد الحانة وأن أحدا منهم لم يفكر فيها فى الواقع .. كأنثى ..
وكانت تود أن تبقى كما هى دون زواج لتربى الأطفال الصغار .. وكانت تعلم أن أى رجل يدخل فى بيتها .. مهما تكن صفاته وتكن أخلاقه سيشغلها عنهم .. ويتضايق فى الوقت نفسه منهم ..
وكانت تتسلى فى النهار بالعمل .. وبالإشراف على المحل ..
وفى الليل كانت تشعر بالراحة عندما يقبل شفيق .. ويجلس بجوارها .. كانت تشعر بسعادة غامرة .. ولكن هذه السعادة لم تدم .. فذات ليلة لم يحضر شفيق كعادته .. وانقطع فجأة .. وكانت تود أن تعرف بيته لتسأل عنه .. أو حتى تذهب إليه بنفسها فقد خشيت أن يكون مريضا .. ولا يجد من يمرضه ..
واستبد بها القلق .. فكانت تطالع الحوادث فى الصحف .. إذ خشيت أن يكون قد وقع له حادث ..
ومرت الأيام دون أن تراه .. وأخيرا شغلت نفسها بالعمل .. وأحست بأن الأيام زادتها خبرة بعملها واطمأنت لحالها .. وعرفت كيف تدير الحانة وكيف تشترى من التجار .. وكيف تحرك العمل بالابتسامة والمعاملة الحسنة .. وبدأ الحال يزدهر .. وجلبت أحسن أنواع الشاى والبن .. والخمور .. وكانت تشرف بنفسها على نظافة الأدوات .. وكل ما يستعمله الزبائن .. وكان كل شىء يسير على أحسن حال ..
وفى ظهر يوم وهى جالسة على البنك .. فوجئت بشىء طير صوابها ولم يكن فى حسبانها أبدا .. أمر بإغلاق الحانة .. لأن هناك إجراءات لم تتم تتعلق بالرخصة .. فانتهت وأصبحت غير معمول بها .. وإذا كانت ترغب فى فتح الحانة عليها أن تستخرج رخصة جديدة والحكومة لاتفتح حانات جديدة .. فى هذا الحى الشعبى .. لأنها لاتريد أن تجعل هذه السموم قريبة من هذه الأيدى الكادحة .. وذهبت ايرين إلى بيتها .. وهى تبكى .. ولم تستطع أن تمنع عيونها عن البكاء أمام الأطفال ..
وقبل أن يمر أسبوع على إغلاق الحانة طرق عليها شفيق أفندى الباب .. ولم تكن تدرى من الذى دله على العنوان .. واستقبلته فرحة .. وسألته أين كان طوال هذه المدة .. وعرفت أنه كان فى المنصورة ينجز بعض أموره الخاصة .. وكان الجو باردا .. فقدمت له ايرين فنجانا من الشاى .. وحكى لها كيف عرف بإغلاق المحل .. وآلمه الخبر .. فطار إليها .. وبعد حديث طويل معها وهو يتأمل بيتها .. ويتأملها .. وهى فى لباس البيت .. وكانت فى غير ثوب الحداد .. ولم تشأ أن تغير الثوب .. فزادت فى نظره فتنة ..
ونظر إلى عينيها .. وإلى بشرتها النقية .. وإلى جسمها الناضج .. وأحس باضطراب قلبه ..
وكانت جالسة أمامه .. صامتة حزينة .. فرق لحالها .. وكان يفكر فى مخرج لورطتها ..
وقال لها وقد فكر فى الرجل الذى سيلجأ إليه :
ـ هاتى الرخصة .. التى باسم المرحوم زوجك ..
ونهضت ايرين تبحث فى الأوراق حتى عثرت عليها .. وتناولها منها ونهض وهو يقول لها :
ـ اطمئنى وفى أقل من أسبوع .. ستكون الرخصة باسمك وتفتحين المحل ..
ـ ألا تريد نقودا ..؟
ـ لمن ..؟
ـ للرسوم .. والإجراءات .. وللشخص الذى يسهل العمل ..
ـ إن كانت هناك رسوم سأدفعها .. وأطلبها منك وأظنها بسيطة .. أما أن أدفع نقودا لأى شخص .. فهذا لايحدث أبدا لأنى لا ألجأ إلى إنسان ساقط المروءة فى عمل أبدا ..
ـ أنت إنسان نبيل .. ولا بد أن يكون أصحابك كلهم نبلاء مثلك وطيبين ..
ثم عادت تسأله بعد لحظات وكأنها تسترجع نفسها :
ـ ألا تقدم له حاجة أبدا ..؟
ـ أبدا ..
ـ إذن سأقدم لك أنت هدية ..
ـ أحسن هدية أننى أعود أجلس بجوارك هناك .. تحت نظرتك .. الحلوة ..
واحمر وجه ايرين وصمتت ..
وبعد خمسة أيام أتم شفيق أفندى لها الإجراءات الناقصة .. وفتحت المحل ..
وعادت ايرين إلى عملها .. وعاد الحال إلى ازدهاره وكانت كلما رأت شفيقا .. فكرت فى الهدية التى تقدمها له .. نظير خدماته لها ..
وكلما خطر فى بالها شىء وجدت أنه لايليق وفكرت فى غيره فى الحال .. وظلت هذه الخواطر تشغل بالها .. وتعذبها ..
وذات مساء .. وجدته متغير اللون عابسا ووجهه كأنه يتمزق .. فسألته عن السبب ..
فقال بأسى وصوته يتمزق ..
ـ أننى كنت النهار بطوله فى المحكمة الشرعية ..
فنظرت إليه باستغراب .. ولم يخطر على بالها قط أنه لايزال فى منازعات مع زوجته السابقة ..
ـ لماذا ..؟
ـ عندى بنت من زوجتى وقد بلغت الرابعة عشر من عمرها .. ولى ثلاث سنوات وأنا أحاول ضمها ..
ـ ثلاث سنوات ..؟
ـ ثلاث سنوات .. كاملة .. وأنا أتردد على المحاكم ..
ـ لم أكن أعرف .. أن لك بنتا كبيرة هكذا .. إنك فى نظرى لم تتجاوز الثلاثين ..
ـ فى الواقع لقد تزوجت صغيرا .. وتلك هى غلطتى الكبرى .. وإن كنت لم أتزوج إلا على الورق ..
وابتسمت ايرين .. وأشفقت على حاله .. وقالت :
ـ كل إنسان معرض للخطأ .. لأننا بشر ..
ـ ولكن غلطتى لا تغتفر .. لأنى سعيت إليها بكل جوارحى المتفتحة .. ثم مر الحادث كالكابوس المروع .. ومن فرط ما روعت لم أفكر فى أن أكرر المأساة ..
وشرب جرعة كبيرة من كأسه .. ونفث دخان سيجارته .. وقال :
ـ تصورى حال عريس يعود من عمله ويجد عروسه قد أخذت أثاثها وهربت .. تصورى هذا .. وهو ما حدث لى .. عدت من عملى فرحا بلقائها .. فوجدتها قد أخذت أثاث البيت كله .. وهربت به إلى بيت أبيها .. وكان قد مضى على زواجنا أسبوع واحد .. أننى لم أستطع أن أنسى هذا اليوم أبدا وإن مضى عليه أربعة عشر عاما ..
ـ ولماذا لم تترك البنت لأمها ..؟
ـ إنها فى الواقع لا تصلح .. ولا يمكن أن تكون أما لتربى أو تحتضن فتاة فى مثل سن سعاد .. وهى سن خطيرة .. ولكن القاضى يرى العكس .. يرى أنى أنا الذى لا أصلح كأب يحتضن ابنته ..
ـ لماذا ..؟
ـ لأنى سكير ..
واحمر وجه ايرين .. واستطرد شفيق :
ـ ولم يسألنى القاضى لماذا أشرب الخمر .. ولماذا شربتها .. شربتها بسببها هى .. لأنها هى التى حطمت أعصابى .. لم أكن أحب أن أقتلها فقتلت نفسى .. وأبقيت عليها .. كانت أعصابى .. فى حالة ثورة مجنونة لمدة أسبوع كامل .. بعد الذى حدث منها .. فشربت الخمر .. لأخدر أعصابى وأحاول أن أنسى .. ما حدث .. وأنسى حقارتها ولو لم أشرب الخمر لقتلتها .. ولكنى آثرت أن أقتل نفسى ببطء .. خيرا من أن ألوث يدى بدمها ..
ونظرت إليه ايرين بلطف وحنان .. كانت تعرف أنه يتعذب .. وأن الذكرى المؤلمة آلمته ومزقت نفسه .. وأن ما حدث له اليوم فى المحكمة زاده ألما وعذابا .. عندما عرف أنه لا يصلح فى المجتمع كأب .. آلمه هذا .. أكثر وأكثر ..
فلا شىء أفظع من أن يكون الرجل ضائعا فى الحياة لا قيمة له ولا وزن .. بين الناس ..
ونظرت إليه بحنان أكثر .. لما وجدته يطوى ألمه بين ضلوعه مرة أخرى ويعود إلى صمته وإلى الكأس يفرغ فيها أحزانه ..
وكانت تود أن تقول له :
ـ أنس ما حدث .. أنس .. أنس هذه المرأة وابحث عن غيرها .. إن عذابك استمر لأنك لم تبحث عن غيرها .. وكل امرأة .. ترغب فى الزواج منك .. لأنك شاب ووسيم ..
ونظرت إليه .. وفكرت فى أنه لو تقدم للزواج منها فى هذه اللحظة لقبلت على الفور .. مع أنها رفضت كثيرين غيره .. رفضت كل من تقدم إليها ..
ولم تكن تدرى لماذا تقبله على الفور .. الأنه يشعر بالتعاسة مثلها .. ولأن الحياة تمزقه دون ذنب جناه .. ولأنه يتعذب بسبب زوجته وبنته .. وتتعذب بسبب تركة زوجها وأولادها ..
ثم عادت وفكرت فى أنه ليس من جنسها .. ولماذا تتزوج رجلا من غير جنسها ..
وكان هو فى هذه الأثناء يدخن وحده .. يأخذ نفسا طويلا من سيجارته .. ويمسك الكأس بين أنامله بحنان ..
وفى خلال نصف ساعة أحس بأنه خرج من وسط الضباب الذى كان يسبح فيه وحده ووجدها لاتزال على البنك .. فسألها :
ـ ألست مروحة ..؟
ـ لا .. سأنتظر إلى آخر الليل .. أغلق أنا المحل .. عبده روح ..
فعاد يدخن صامتا ..
وكان هناك رجل واحد يجلس إلى مائدة منزوية .. فشرب ثم نهض .. وأخذ الفراش يطوى الكراسى .. ويخفف الضوء ..
***
وكانت ايرين منذ ساعة تنظر إلى شىء هناك من وراء الزجاج فى البوفيه الموضوع فى جانب من المحل .. وكان نظرها يرتد عنه .. ثم يعود إليه .. فى خلال ذلك انتابتها موجة من الإنفعالات فظهر أثرها على وجهها .. ولولا أن أحدا التفت إليها لاكتشف أمرها ولعرف ما تعانيه من عذاب وأخيرا تحركت من مكانها وفتحت البوفيه وأخرجت زجاجة ..
ومسحت عنها التراب بحنان ولفتها فى ورقة ..
كانت زجاجة من نبيذ بوردو النادر جاء بها المرحوم زوجها فى أحد أسفاره .. وأبقتها فى مكانها حتى الساعة .. كأعز تذكار .. كشىء ثمين تحرص عليه .. لأنه يذكرها به .. كانت هذه الزجاجة أعز عليها من كل شىء فى الحياة ..
وعندما كان الفراش ينزل أبواب المحل من الخارج كانت ايرين لاتزال فى الداخل .. وكانت تنظر إلى صورة صغيرة لزوجها معلقة فى الجدار .. وتنهدت ومدت يدها وجعلت وجه الصورة إلى الحائط .. ثم تناولت الزجاجة وأعطتها لشفيق وعيناها تتألقان ببريق فهم معناه ..
وسار بجانبها فى الشارع .. وهو يشعر بسعادة لم يحس بمثلها فى حياته . وكان يعرف أنها ذاهبة به إلى بيتها حتى وإن لم تحدثه عن ذلك صراحة .. وكان متيقنا من ذلك ..
وكان الفرح يغمره .. وكان يمشى كالمأخوذ .. ولكنه يحس بأن عذابه انتهى وأن روحه عادت إليه ..
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشرت القصة فى مجلة " الجيل " بعددها رقم 349 بتاريخ 13/7/1959وأعيد نشرها فى كتاب " عذراء ووحش " سنة 1963
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

السبت، ٢٩ سبتمبر ٢٠٠٧

تذكار ـ قصة قصيرة








تذكار

قصة محمود البدوى

شارع القلعة شارع تاريخى .. ومن أقدم شوارع العاصمة .. وهو شارع طويل وحافل بمختلف الأشياء والسلع .. ففيه توجد دار الكتب المصرية والمكاتب التى تبيع الكتب القديمة والحديثة ودكاكين التجليد الفاخرة والمطابع الصغيرة .. ومحلات الدباغة بكل أنواعها .. والحوانيت التى تبيع الآلات الموسيقية الشرقية والغربية .. والصور الفوتوغرافية ورسوم الزيت والخردوات بكل أشكالها .. ودكاكين البقالة الصغيرة والكبيرة .. ومحلات الحلوى الشعبية .. والمطاعم الصغيرة .. والحانات .. وكل مايحتاجه الإنسان يجده فى هذا الشارع الشعبى ..
والحانات فى هذا الشارع تقع فى المنطقة التى بين دار الكتب وميدان العتبة .. وهى ليست كثيرة .. ولكنها حافلة بالرواد .. لأنها قريبة من مركز الثقل فى المدينة حيث تتركز كل الأعمال الثقيلة فى شارع الأزهر وشارع الجيش .. فبعد عمل شاق يجد الشيالون والعمال أنفسهم مسوقين بقوة لاتقهر إلى المقاهى والحانات .. لينسوا تعب النهار وكده فى الشاى الأسود والخمر ..
وكان الخواجة تاليدس .. يملك حانة صغيرة فى شارع القلعة .. ولما توفى فجأة اضطرت زوجته .. ايرين .. أن تديرها لتأتى برزق الأطفال .. وبعد شهر واحد من موت زوجها روعت بسيل من الأوراق التى لاتدخل فى حسبانها من الجهات الرسمية .. ومن التجار المتعاملين مع زوجها .. حتى فقدت أعصابها وأدركت أنها لاتصلح لهذا العمل ..
وكان يؤلمها أنها لاتعرف لغة هذه الأوراق ..
وفى كل يومين أو ثلاثة .. كان يدخل عليها العسكرى .. متأبطا .. ملفا قديما متسخا يخرج منه ورقة .. يقدمها لها فى غير مبالاة .. وكأنه يقدم لها صك الموت .. ومرة تكون الورقة من الضرائب .. ومرة أخرى من السجل التجارى ومرة من الأحوال الشخصية ..
وكانت تنظر لهذه الأوراق ببلاهة .. وتحدث نفسها .. هل ترك تاليدس كل هذه التركة المثقلة بالديون لى .. وهو يعرف أننى وحيدة .. ولماذا فعل هذا ..؟
وكانت عيناها تدمعان وهى ترى هذه الأوراق فى بيتها وهى وحيدة مع أطفالها ولا نصير لها ولامعين كانت تبكى بحرقة .. وزاد الحال سوءا لما اشتكاها أحد العمال لمصلحة العمل .. ثم حدث ماشل حركتها تماما عندما توقع عليها الحجز من الضرائب ..
وكان من زبائن الحانة .. رجل فى الأربعين من عمره ويدعى شفيق أفندى .. وكان يأتى فى الليل عادة بعد الساعة الثامنة .. مساء ولا يتخلف ليلة .. ويجلس وحده إلى مائدة ملاصقة للبنك الذى تجلس عليه ايرين ..
وكان يشرب البراندى ونظره عالق بها .. يأخذ جرعة ويضع الكأس كأنه يحتسى فنجالا من الشاى فلاحظها ذات ليلة وهى تخفى دموعها وسألها عما حدث فحكت له ايرين كل ما جرى فى الأيام الماضية ..
وقدمت له آخر ورقة .. تركها لها العسكرى فى الصباح .. وطمأنها شفيق أفندى .. وقال لها باخلاص :
ـ سأقوم بكل الإجراءات .. نيابة عنك .. ولاداعى لأن تشغلى نفسك بهذه الأشياء ..
ـ كم أشكرك .. إن هذه الأوراق روعتنى وحطمت أعصابى .. وأنا لا أعرف أى إجراء .. لا أعرف كيف أحل هذه المشاكل كلها .. لا أعرف شيئا على الإطلاق .. وكل من يؤدى لى خدمة يطلب الفلوس .. وليته يأخذ الفلوس ويأتى بنتيجة .. أنا أرملة مسكينة .. أعمل معروفا انقذنى من هذا العذاب ..
ـ لاتفكرى فى هذه الأشياء من الآن .. سأنهيها كلها .. لاتشغلى نفسك بها .. اعتبرينى كالمرحوم ..
وشكرته بحرارة .. وهى تقدر أن عذابها قد انتهى .. ومن هذه الساعة أشرف شفيق أفندى على كل حاجاتها .. وكان يقوم لها بكل الأعمال التى تتصل بالجهات الرسمية .. ويظل يلف فى النهار كالنحلة حتى يخلصها من كل المتاعب ..
وانزاح عنها الحمل الذى كانت تدور به .. وكان يعذبها .. وتفتحت نفسها للحياة من جديد .. وأخذت تبتسم وتتزين ..
وكان يجلس بجانبها كل ليلة يحادثها .. واطمأنت لصوته .. كما اطمأنت لخدماته .. وكان صوته يشيع فيها الدفء .. ورثت لحاله وأشفقت عليه لما عرفت بعض حياته الخاصة .. عرفت بأنه أرمل تزوج منذ خمسة عشر عاما .. ومكثت معه زوجته اسبوعا واحدا ثم هربت .. ومن وقتها وهو فى نزاع معها فى المحاكم .. لأنها حملت منه وأخلفت بنتا ..
ومن الوقت الذى بدأ فيه شفيق يحادث ايرين عن حياته الخاصة .. وهى تشعر بأنها فى حاجة لأن تتزين .. وأن تخفف من مظاهر الحداد على المرحوم ..
وكانت فى الثانية والأربعين من عمرها ممتلئة الجسم بيضاء البشرة سوداء الشعر .. وكانت تأنس بحديث شفيق كل ليلة .. حتى أصبح جزءا من حياتها .. كان يحدثها عن أحواله وآلامه بقلب يتمزق .. كان تعسا على طول الخط لم يشعر بالسعادة قط .. وقد جرته التعاسة إلى الخمر ..
وكانت ترثى لحاله .. وتجد رابطة خفية قد جمعتها به .. وشدتها إليه .. وعندما كانت تجمع نقودها من خزينتها فى الساعة العاشرة مساء وتنطلق إلى بيتها .. القريب .. فى أول شارع الهدارة بعابدين .. بعد أن تسلم المحل لأحد العمال .. كانت تشعر بأسف .. وتود أن تبقى فى المحل إلى نصف الليل .. لأنها تشعر فى البيت .. بوحشة .. وفراغ .. لم تكن تحس بهما فى الحانة ..
وكان أولادها الثلاثة .. يشغلونها فى الصباح .. وهم ذاهبون إلى المدرسة .. ولكن فى الليل .. وهى راجعة .. من المحل .. كانت تجدهم نياما .. وتجد الخادمة بدرية نائمة أيضا .. وكانت تحس بالوحدة القاسية وبهزة فى أعصابها .. كأن شيئا يتمزق فى كيانها ..
وكانت الليالى دافئة .. ولكنها كانت تحس بالبرودة وبالوحشة وبالعذاب الذى يضنيها ..
وبعد موت تاليدس .. بشهرين اثنين عرض عليها أكثر من رجل الزواج .. ولكنها رفضتهم جميعا .. كانت تعرف أنهم يرغبون فى ايراد الحانة وأن أحدا منهم لم يفكر فيها فى الواقع .. كأنثى ..
وكانت تود أن تبقى كما هى دون زواج لتربى الأطفال الصغار .. وكانت تعلم أن أى رجل يدخل فى بيتها .. مهما تكن صفاته وتكن أخلاقه سيشغلها عنهم .. ويتضايق فى الوقت نفسه منهم ..
وكانت تتسلى فى النهار بالعمل .. وبالإشراف على المحل ..
وفى الليل كانت تشعر بالراحة عندما يقبل شفيق .. ويجلس بجوارها .. كانت تشعر بسعادة غامرة .. ولكن هذه السعادة لم تدم .. فذات ليلة لم يحضر شفيق كعادته .. وانقطع فجأة .. وكانت تود أن تعرف بيته لتسأل عنه .. أو حتى تذهب إليه بنفسها فقد خشيت أن يكون مريضا .. ولا يجد من يمرضه ..
واستبد بها القلق .. فكانت تطالع الحوادث فى الصحف .. إذ خشيت أن يكون قد وقع له حادث ..
ومرت الأيام دون أن تراه .. وأخيرا شغلت نفسها بالعمل .. وأحست بأن الأيام زادتها خبرة بعملها واطمأنت لحالها .. وعرفت كيف تدير الحانة وكيف تشترى من التجار .. وكيف تحرك العمل بالابتسامة والمعاملة الحسنة .. وبدأ الحال يزدهر .. وجلبت أحسن أنواع الشاى والبن .. والخمور .. وكانت تشرف بنفسها على نظافة الأدوات .. وكل ما يستعمله الزبائن .. وكان كل شىء يسير على أحسن حال ..
وفى ظهر يوم وهى جالسة على البنك .. فوجئت بشىء طير صوابها ولم يكن فى حسبانها أبدا .. أمر بإغلاق الحانة .. لأن هناك إجراءات لم تتم تتعلق بالرخصة .. فانتهت وأصبحت غير معمول بها .. وإذا كانت ترغب فى فتح الحانة عليها أن تستخرج رخصة جديدة والحكومة لاتفتح حانات جديدة .. فى هذا الحى الشعبى .. لأنها لاتريد أن تجعل هذه السموم قريبة من هذه الأيدى الكادحة .. وذهبت ايرين إلى بيتها .. وهى تبكى .. ولم تستطع أن تمنع عيونها عن البكاء أمام الأطفال ..
وقبل أن يمر أسبوع على إغلاق الحانة طرق عليها شفيق أفندى الباب .. ولم تكن تدرى من الذى دله على العنوان .. واستقبلته فرحة .. وسألته أين كان طوال هذه المدة .. وعرفت أنه كان فى المنصورة ينجز بعض أموره الخاصة .. وكان الجو باردا .. فقدمت له ايرين فنجانا من الشاى .. وحكى لها كيف عرف بإغلاق المحل .. وآلمه الخبر .. فطار إليها .. وبعد حديث طويل معها وهو يتأمل بيتها .. ويتأملها .. وهى فى لباس البيت .. وكانت فى غير ثوب الحداد .. ولم تشأ أن تغير الثوب .. فزادت فى نظره فتنة ..
ونظر إلى عينيها .. وإلى بشرتها النقية .. وإلى جسمها الناضج .. وأحس باضطراب قلبه ..
وكانت جالسة أمامه .. صامتة حزينة .. فرق لحالها .. وكان يفكر فى مخرج لورطتها ..
وقال لها وقد فكر فى الرجل الذى سيلجأ إليه :
ـ هاتى الرخصة .. التى باسم المرحوم زوجك ..
ونهضت ايرين تبحث فى الأوراق حتى عثرت عليها .. وتناولها منها ونهض وهو يقول لها :
ـ اطمئنى وفى أقل من أسبوع .. ستكون الرخصة باسمك وتفتحين المحل ..
ـ ألا تريد نقودا ..؟
ـ لمن ..؟
ـ للرسوم .. والإجراءات .. وللشخص الذى يسهل العمل ..
ـ إن كانت هناك رسوم سأدفعها .. وأطلبها منك وأظنها بسيطة .. أما أن أدفع نقودا لأى شخص .. فهذا لايحدث أبدا لأنى لا ألجأ إلى إنسان ساقط المروءة فى عمل أبدا ..
ـ أنت إنسان نبيل .. ولا بد أن يكون أصحابك كلهم نبلاء مثلك وطيبين ..
ثم عادت تسأله بعد لحظات وكأنها تسترجع نفسها :
ـ ألا تقدم له حاجة أبدا ..؟
ـ أبدا ..
ـ إذن سأقدم لك أنت هدية ..
ـ أحسن هدية أننى أعود أجلس بجوارك هناك .. تحت نظرتك .. الحلوة ..
واحمر وجه ايرين وصمتت ..
وبعد خمسة أيام أتم شفيق أفندى لها الإجراءات الناقصة .. وفتحت المحل ..
وعادت ايرين إلى عملها .. وعاد الحال إلى ازدهاره وكانت كلما رأت شفيقا .. فكرت فى الهدية التى تقدمها له .. نظير خدماته لها ..
وكلما خطر فى بالها شىء وجدت أنه لايليق وفكرت فى غيره فى الحال .. وظلت هذه الخواطر تشغل بالها .. وتعذبها ..
وذات مساء .. وجدته متغير اللون عابسا ووجهه كأنه يتمزق .. فسألته عن السبب ..
فقال بأسى وصوته يتمزق ..
ـ أننى كنت النهار بطوله فى المحكمة الشرعية ..
فنظرت إليه باستغراب .. ولم يخطر على بالها قط أنه لايزال فى منازعات مع زوجته السابقة ..
ـ لماذا ..؟
ـ عندى بنت من زوجتى وقد بلغت الرابعة عشر من عمرها .. ولى ثلاث سنوات وأنا أحاول ضمها ..
ـ ثلاث سنوات ..؟
ـ ثلاث سنوات .. كاملة .. وأنا أتردد على المحاكم ..
ـ لم أكن أعرف .. أن لك بنتا كبيرة هكذا .. إنك فى نظرى لم تتجاوز الثلاثين ..
ـ فى الواقع لقد تزوجت صغيرا .. وتلك هى غلطتى الكبرى .. وإن كنت لم أتزوج إلا على الورق ..
وابتسمت ايرين .. وأشفقت على حاله .. وقالت :
ـ كل إنسان معرض للخطأ .. لأننا بشر ..
ـ ولكن غلطتى لا تغتفر .. لأنى سعيت إليها بكل جوارحى المتفتحة .. ثم مر الحادث كالكابوس المروع .. ومن فرط ما روعت لم أفكر فى أن أكرر المأساة ..
وشرب جرعة كبيرة من كأسه .. ونفث دخان سيجارته .. وقال :
ـ تصورى حال عريس يعود من عمله ويجد عروسه قد أخذت أثاثها وهربت .. تصورى هذا .. وهو ما حدث لى .. عدت من عملى فرحا بلقائها .. فوجدتها قد أخذت أثاث البيت كله .. وهربت به إلى بيت أبيها .. وكان قد مضى على زواجنا أسبوع واحد .. أننى لم أستطع أن أنسى هذا اليوم أبدا وإن مضى عليه أربعة عشر عاما ..
ـ ولماذا لم تترك البنت لأمها ..؟
ـ إنها فى الواقع لا تصلح .. ولا يمكن أن تكون أما لتربى أو تحتضن فتاة فى مثل سن سعاد .. وهى سن خطيرة .. ولكن القاضى يرى العكس .. يرى أنى أنا الذى لا أصلح كأب يحتضن ابنته ..
ـ لماذا ..؟
ـ لأنى سكير ..
واحمر وجه ايرين .. واستطرد شفيق :
ـ ولم يسألنى القاضى لماذا أشرب الخمر .. ولماذا شربتها .. شربتها بسببها هى .. لأنها هى التى حطمت أعصابى .. لم أكن أحب أن أقتلها فقتلت نفسى .. وأبقيت عليها .. كانت أعصابى .. فى حالة ثورة مجنونة لمدة أسبوع كامل .. بعد الذى حدث منها .. فشربت الخمر .. لأخدر أعصابى وأحاول أن أنسى .. ما حدث .. وأنسى حقارتها ولو لم أشرب الخمر لقتلتها .. ولكنى آثرت أن أقتل نفسى ببطء .. خيرا من أن ألوث يدى بدمها ..
ونظرت إليه ايرين بلطف وحنان .. كانت تعرف أنه يتعذب .. وأن الذكرى المؤلمة آلمته ومزقت نفسه .. وأن ما حدث له اليوم فى المحكمة زاده ألما وعذابا .. عندما عرف أنه لا يصلح فى المجتمع كأب .. آلمه هذا .. أكثر وأكثر ..
فلا شىء أفظع من أن يكون الرجل ضائعا فى الحياة لا قيمة له ولا وزن .. بين الناس ..
ونظرت إليه بحنان أكثر .. لما وجدته يطوى ألمه بين ضلوعه مرة أخرى ويعود إلى صمته وإلى الكأس يفرغ فيها أحزانه ..
وكانت تود أن تقول له :
ـ أنس ما حدث .. أنس .. أنس هذه المرأة وابحث عن غيرها .. إن عذابك استمر لأنك لم تبحث عن غيرها .. وكل امرأة .. ترغب فى الزواج منك .. لأنك شاب ووسيم ..
ونظرت إليه .. وفكرت فى أنه لو تقدم للزواج منها فى هذه اللحظة لقبلت على الفور .. مع أنها رفضت كثيرين غيره .. رفضت كل من تقدم إليها ..
ولم تكن تدرى لماذا تقبله على الفور .. الأنه يشعر بالتعاسة مثلها .. ولأن الحياة تمزقه دون ذنب جناه .. ولأنه يتعذب بسبب زوجته وبنته .. وتتعذب بسبب تركة زوجها وأولادها ..
ثم عادت وفكرت فى أنه ليس من جنسها .. ولماذا تتزوج رجلا من غير جنسها ..
وكان هو فى هذه الأثناء يدخن وحده .. يأخذ نفسا طويلا من سيجارته .. ويمسك الكأس بين أنامله بحنان ..
وفى خلال نصف ساعة أحس بأنه خرج من وسط الضباب الذى كان يسبح فيه وحده ووجدها لاتزال على البنك .. فسألها :
ـ ألست مروحة ..؟
ـ لا .. سأنتظر إلى آخر الليل .. أغلق أنا المحل .. عبده روح ..
فعاد يدخن صامتا ..
وكان هناك رجل واحد يجلس إلى مائدة منزوية .. فشرب ثم نهض .. وأخذ الفراش يطوى الكراسى .. ويخفف الضوء ..
***
وكانت ايرين منذ ساعة تنظر إلى شىء هناك من وراء الزجاج فى البوفيه الموضوع فى جانب من المحل .. وكان نظرها يرتد عنه .. ثم يعود إليه .. فى خلال ذلك انتابتها موجة من الإنفعالات فظهر أثرها على وجهها .. ولولا أن أحدا التفت إليها لاكتشف أمرها ولعرف ما تعانيه من عذاب وأخيرا تحركت من مكانها وفتحت البوفيه وأخرجت زجاجة ..
ومسحت عنها التراب بحنان ولفتها فى ورقة ..
كانت زجاجة من نبيذ بوردو النادر جاء بها المرحوم زوجها فى أحد أسفاره .. وأبقتها فى مكانها حتى الساعة .. كأعز تذكار .. كشىء ثمين تحرص عليه .. لأنه يذكرها به .. كانت هذه الزجاجة أعز عليها من كل شىء فى الحياة ..
وعندما كان الفراش ينزل أبواب المحل من الخارج كانت ايرين لاتزال فى الداخل .. وكانت تنظر إلى صورة صغيرة لزوجها معلقة فى الجدار .. وتنهدت ومدت يدها وجعلت وجه الصورة إلى الحائط .. ثم تناولت الزجاجة وأعطتها لشفيق وعيناها تتألقان ببريق فهم معناه ..
وسار بجانبها فى الشارع .. وهو يشعر بسعادة لم يحس بمثلها فى حياته . وكان يعرف أنها ذاهبة به إلى بيتها حتى وإن لم تحدثه عن ذلك صراحة .. وكان متيقنا من ذلك ..
وكان الفرح يغمره .. وكان يمشى كالمأخوذ .. ولكنه يحس بأن عذابه انتهى وأن روحه عادت إليه ..
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشرت القصة فى مجلة " الجيل " بعددها رقم 349 بتاريخ 13/7/1959وأعيد نشرها فى كتاب " عذراء ووحش " سنة 1963
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الثلاثاء، ٢٥ سبتمبر ٢٠٠٧

بائعة العطور ـ قصة قصيرة



بائعة العطور
قصة محمود البدوى



كان الخواجة نعوم يملك محلا صغيرا للعطور وأدوات الزينة فى شارع فؤاد الأول .. وفى خلال الحرب ربح كثيرا مما كان يبيعه من العطور المغشوشة لجنود الحلفاء حتى تضاعفت ثروته وتضخمت ..
فلما انتهت الحرب ورحل الإنجليز عن القاهرة فى غير رجعة انكمشت تجارته وقل زبائنه ووقفت راشيل على باب الحانوت تضحك للمارة وتغريهم بابتسامتها على الدخول .. ولكن هيهات فإن شهرة الخواجة نعوم فى غش العطور كانت قد بلغت الآفاق ..
ولكن على الرغم من هذا كله فقد ثبت الخواجة نعوم فى الميدان ، ووسع واجهة المحل وزينها بأنوار النيون .. وبنى لنفسه دورا علويا صغيرا من الداخل .. اتخذ منه مكتبا له ومخزنا للعطور ..
وكان المكتب عبارة عن غرفة صغيرة أنيقة أحاطها بالستر وزينها بالصور وجعل فيها أريكة طويلة فقد كان الخواجة نعوم ينام أحيانا وقت الظهيرة فى هذا المكان ..
وفى مساء يوم رأى وهو واقف خلف الطاولة ثلاثة يقفون على واجهة المحل يستعرضون ما فيها من بضائع .. واقترب منهم وحدق فيهم وسمع لغتهم .. فسال لعابه لقد كانوا ثلاثة من الجنود الإنجليز فى ملابس مدنية ..
وغمز لراشيل بعينه فخرجت واقتربت منهم .. وبعد أقل من دقيقة كان الجنود الثلاثة فى داخل الحانوت ..
وعرضت راشيل وزميلتها مارى على الجنود أحسن ما فى المتجر من بضائع .. واستطاعت راشيل بابتسامتها ولباقتها وطريقتها فى عرض الأشياء أن تغرى الجنود بالشراء فاشتروا زجاجات عطر وأدوات زينة للسيدات وجوارب ومناديل ومحافظ جلدية . وسر الخواجة نعوم لهذا وكاد يرقص من الفرح وأجلس الجنود داخل المحل وطلب لهم قهوة ..
وجلس الجنود يتحدثون مع راشيل إلى أن تجىء القهوة وسأل ماك :
ـ أيوجد تليفون هنا ..؟
وأجابه الخواجة نعوم :
ـ نعم .. فوق ..
وأشار إلى راشيل وصعدت مع ماك السلم الداخلى الصغير المؤدى إلى غرفة المكتب ومكث ماك مع راشيل فى هذه الغرفة كثيرا وطال انتظار أصحابه ..
وأخيرا نزل وخلفه راشيل وكان يبتسم لرفيقيه مزهوا ..
وبعد ساعة كان الجنود الثلاثة فى القطار العائد بهم إلى الإسماعيلية ..
وأخرج ماك من جيبه صورة فى حجم الكارت بوستال وعرضها على زميليه ..
كانت صورة راشيل وهى فى لباس البحر ..
وقال فى فخر :
ـ لقد كان هذا الجسم لى منذ ساعة ..
ونظر إليه صديقاه فى غيظ وحسد وأخذ هو يضحك .. لقد كانت راشيل فاتنة بحق .. وفتح محفظته ليعيد إليها الصورة وكان لايزال يضحك ..
وفجأة صرخ ..
لقد اكتشف سرقة الأوراق المالية التى فى المحفظة ..
لقد وضعت له راشيل صورتها الجميلة فى المحفظة .. ولكنها أخذت بدلها جميع ما فيها من نقود ..
وضحك صديقاه فى هذه المرة .. وظلا يضحكان منه طول الطريق ..!
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشرت القصة فى مجلة القصة ـ العدد 80 بتاريخ 20/1/1953 وأعيد نشرها فى كتاب قصص قصيرة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

بنسيون منيرفا ـ قصة قصيرة



بنسيون منيرفا
قصة محمود البدوى



اشتغلت فى أول عهدى بالحياة فى شركة الحاج عبد الصمد للتجارة والملاحة الدولية بالسويس ..
وكان الحاج عبد الصمد هذا أميا لايقرأ ولا يكتب ، ولكنه يحمل فى رأسه عقل " شاخت " ..
وكان متعهد جميع البواخر التى تمر بمدينة السويس ، يفرغ منها البضائع ويمونها بالأغذية والأطعمة المجففة ، وكنا نعمل فى الميناء من الصباح إلى المساء ، ونظل نتعهد الباخرة حتى ترفع السلم وتدور محركاتها وتنطلق فى عرض البحر ..
وكنت شغوفا بهذا العمل مرتاحا إليه .. لأننى اختبرت فى خلاله الحياة والناس عن قرب ، فقد كنت أصعد على ظهر المركب واختلط بالركاب وأشاهد ألوفا مختلفة من الناس من كل جنس ولون .. ولقد أصبحت لطول اختبارى أستطيع أن أميز الإنجليزى من الأمريكى من الفرنسى من الهولاندى من الصينى .. دون أن ينطق بحرف .. فلكل من هؤلاء خصائصه التى تتميز بها الشعوب ..
وكنت أفرغ من العمـل فى السـاعة التاسعة مساء .. وأجلس فى
مشرب من مشارب الجعة لأتعشى .. ثم أذهب إلى البنسيون الذى أقيم
فيه ، وكان يسمى بنسيون " منـيرفا " وهو بنسيون صغير فى قلب المدينة ، وكنت أسكن مع أسرة أجنبية ، واخترت غرفة منعزلة لها باب داخل البنسيون وآخر مستقل .. وكانت الأسرة تؤجر ثلاث غرف أخرى لبعض النزلاء .. كانت مؤجرة غرفة لشخص يدعى محروس أفندى وكان قصير القامة ، ناحل الجسم لا يزن أكثر من ثمانين رطلا ، ولكنه استعاض عن هذا النقص بما يكمله ، فقد كانت له زوجه فى حجم الفيل .. وقد جاءت هذه الزوجة من بور سعيد لتزوره فقط لأن إقامة زوجها فى السويس كانت مؤقته .. ولكنها استطابت الحياة فى البنسيون فبقيت شهرا وشهرين وثلاثة .. وقد أخذت هذه الزوجة منذ الاسبوع الأول من سكناى تغازلنى بشكل مفضوح ..! ولم يكن وقتى وعملى يتسعان للحياة العابثة إطلاقا ، فكنت أقابل مغازلاتها بإعراض وصدود ، ولكنها مع هذا لم تيأس واستمرت فى هجومها ، وكانت صاحبة البنسيون أرملة فى الخمسين من عمرها .. ولها بنتان ، واحدة متزوجة وتقيـم فى بور توفيق .. وأخرى دون العشرين بقليل وتقيم معها .. واسمها لندا .. وكانت لندا جميلة تجيد العزف على البيان ..
وكان هناك عجوز لا عمل له يشغل غرفة من الغرف ، وكان يتكلم كل لغات الأرض ، فقد كان قبطانا فى الميناء ، وكان دائم القعود فى البيت ، يدخن ويسكر ، وينطلق لسانه بكلام لامعنى له عن حرية الشعوب ، وحرية الملاحة فى البحار ، وعن الرجال الأفذاذ الذين نسيهم التاريخ ..
وكانت هناك سيدة إنجليزية تشغل غرفة صغيرة فى الطرقة ، وكانت تعمـل فى شركة من شركات البترول ، ولم يكن جميلة ولا قبيحة ، وكانت مغرمة بالشراب ، تشرب الويسكى على الريق ..
وكنا نجتمع فى يوم الأحد ، وهو يوم الراحة لنا جميعا على المائدة ونتغدى ونشرب ونتحدث .. ونستمع بعد الغداء إلى لندا وهى تعزف على البيان ، وإلى غناء القبطان وإلى حديث السيدة الإنجليزية عن الحياة فيما وراء البحـار ، وكان القبطان يغنى أغنية واحدة بالإيطالية ويكررها ، وكان صوته قبيحا ، وكانت معانى الأغنية السامية تبتذل من طريقته فى الالقاء ، ومن صوته الكريه .. وكان يخيل إلينا أنه يخص لندا وحدها بالغزل والغناء ، وكان إذا فرغ من الغناء ابتعد عن المجلس وجلس فى ركن مظلم من الردهة يدخن ويحدق فى الفتاة ويضع رأسه على راحته ويفكر ..
وكانت لندا تحادث الجالسين جميعا فى مرح وغبطة إلا هو ، فإذا وجه إليها كلاما امتقع وجهها وردت عليه فى جفاء ظاهر .. وكانت زوجة محروس أفندى أكثر نزلاء البنسيون مرحا وسرورا بهذا اليوم ، وكانت تطبخ لنا الأرز بالسمك .. وتضع أمامى الطبق وتسألنى رأيى .. وكنت أتعمد إغاظتها وأقول لها أنه ردىء .. وإننى أكلت أحسن منه فى الكازينو ، فكانت تزم شفتيها وتصمت حتى نفرغ من الطعام .. وكان زوجها يشتغـل فى الجـمرك ، ويعمل أسبوعا فى الليل وأسبوعا فى النهار .. وكانت حجرتها ملاصقة لحجرتى ، وبيننا باب مغلق وراءه دولاب صغير للملابس من السهل أن تحركه من مكانه . فكنت خلال الأسبوع الذى يتغيب فيه زوجها ، أخشى أن تدفعها الرغبة إلى فتح الباب ، والتسلل إلى غرفتى فى ظلام الليل .. ولم أكن أشعر نحوها بأى عاطفة مما يحسه الرجل نحو المرأة .. كنت صغيرا لم أتجاوز الثامنة عشرة من عمرى ، وكان العمل المرهق يستغرق كل وقتى وكل طاقتى .. وكنت أعود إلى البيت تعبا وأستغرق فى نوم عميق ولا أحس بشىء مما حولى إلى الصباح ..
وكانت المرأة تلاحقنى وتتقصى أخبارى .. وعجبت إذ رأيتها بعد أسبوع واحد من نزولى فى البنسيون قد عرفت كل شىء عنى .. عرفت من أين جئت ، وأين أشتغـل ، وما هو أجرى ، والمطعم الذى أتغدى فيه .. والمشرب الذى أشرب فيـه الجعة ، والحلاق الذى يقص لى شعرى .. وقد أبغضتها لهذا الفضول ..
وكانت الإنجليزية تعـود إلى البنسـيون متأخرة فى الليل مثلى ..
كانت تسهر فى نادى الشركة ، وكانت غرفتى كمـا وصفت مستقلة
ولها باب على السلم ، وكنت أدخل البنسيون بمفتاح معى من الباب الكبير ، لأننى لا أستطيع أن أمر على غرفة محروس أفندى وزوجته ..
واستيقظت ذات ليلة على نقر خفيف على الباب .. فتصورت أن زوجة محروس أفندى تنقر على الباب الذى بينى وبينها .. فتناومت ، وعاد النقر من جـديد .. وتسمعت وتبينت أنه على باب الغرفة الخارجى .. فنهضت وفتحت الباب .. فألفيت السيدة الإنجليزية على العتبة .. وقالت :
" أرجو المعذرة لإزعاجك .. فقد طرقت باب البنسيون فلم يرد علىَّ أحد .. ولا أحب أن أزعجهم أكثر من ذلك .. فتكرم علىَّ بالمفتاح الذى معك " ..
فتركتها واقفة فى مدخل الباب وأخذت أبحث عن المفتاح فى المكان الذى اعتدت أن أضعه فيه .. وطال بحثى ..
فقالت لى بصوت رقيق :
ـ ألا تجده ..؟
ـ آسف يا سيدتى .. تفضلى قليلا بالجلوس إلى أن أعثر عليه ..
ودخلت وجلست على كرسى قريب من الباب .. وبحثت فى كل جيوبى وفى كل الأدراج ، فلم أعثر على المفتاح ..
وقلت لها بعد اليأس :
ـ سأقرع أنا الباب ..
فقالت بلهجة مؤكدة :
ـ لا داعى لذلك يا اسماعيل أفندى .. وإن فعلت هذا سأذهب إلى أى فندق ..
ووقفت حائرا .. وسمعتها تقول :
ـ سأنام على هذا الكرسى .. إلى الصباح ..
فقلت لها :
ـ بل أنا الذى سينام عليه ..
وطال حوارنا .. وأخيرا رضيت بأن تحتل مكانى وأطفأت النور .. وأغلقت عينى .. وأحسست بها وهى تخلع ملابسها فى الظلام .. ثم ذهبت إلى السرير .. ومضت فترة طويلة ، وكان الظلام والسكون يخيمان على جو الغرفة .. ثم شعرت بها تتقلب على السرير ونزلت من فوقه فى هدوء .. واقتربت منى .. وشممت من فمها رائحة الخمر ..
***
وفى يوم الأحد جلسنا جميعا حول مائدة الغداء .. فنظرت إلىَّ زوجة محروس أفندى وقالت :
ـ كان فيه حرامى بيخبط عليك أول امبارح بالليل يا إسمـاعيل
أفندى ..
ـ حرامى ..؟
ـ أيوه .. حرامى ..
ـ محستش بحاجة ..
ـ لازم أنا كنت بحلم ..
ونظرت إلىَّ وإلى الإنجـليزية فى خبث .. واتجهـت إلينا جميع الأنظار ..
***
وكان القبطان لايزال متيما بابنة صاحبة البنسيون ويكاد يجن بها ..
وفى غروب يوم من أيام الصيف دخلت الفتاة الحمام لتستحم .. وكانت تتصور أن الجميع فى الخارج .. فتركت باب الحمام مفتوحا ، ووقفت تحت الدش وأخذت تغنى ..
وسمعها القبطان وكان فى غرفته وقد أغلق عليه بابه .. وخرج إليها فى هدوء يتلصص حتى دخل عليها الحمام وهى عارية .. وصرخت الفتاة .. وجـاء على صوتها جميع سكان العمارة وأخذوا يضربون الرجل .. وكان أكثرهم ضربا له زوجة محروس أفندى ..!
====================================
نشرت القصة فى صحيفة الزمان 15/8/1950 وأعيد نشرها بمجموعة قصص لمحمود البدوى بعنوان " حدث ذات ليلة "

حلاق للسيدات ـ قصة قصيرة



حلاق للسيدات
قصة محمود البدوى



كان ميخاليدس حلاقا يونانيا مشهورا فى شارع سليمان باشا ، وكان حانوته ملتقى السيدات المصريات والأجنبيات الأنيقات فى المجتمع ، ومن الساعة السادسة مساء لاتجد فى محله كرسيا خاليا ..
وغالبا ما تجد سيدة أو أكثر جالسة فى مدخل الحانوت فى انتظار دورها ، وتصافح أنفك وأنت مار فى هذا الشارع وعلى بعد ثلاث خطوات من الحانوت رائحة العطور العبقة ، وتسمع حوار السيدات الممتع ، وحركة المراوح الكهربائية وصوت آلات التجميل ، وهى تصلح ما أفسده الدهر ..!
وترى السيدات يخرجن من " الصالون " إلى المراقص والملاهى الليلية وهن يبهرن الأبصار ..
وكانت زينات هانم من " زبائن " هذا الحلاق " الدائمات " كانت تأتى إليه مرتين فى الأسبوع على الأقل لتتزين ، وكانت من الثريات وزوجها عضو مجلس إدارة فى أكبر بنك فى المدينة ، وفى أربع شركات كبرى ، ومع أنه لايتمتع بذهن اقتصادى ، ولا بعقل جبار ، ولا بشىء يؤهله لهذه المناصب فقد غدا من كبار رجال الأعمال .. وهكذا تجرى الحظوظ والأقدار ..
وكانت زينات هانم تعيش معه فى شبه عزلة ولا تراه إلا قليلا ، فقد كان عمله يستغرق كل وقته وكل جهده .. وكانت قد تجاوزت سن الأربعين بكثير واقتربت من سن اليأس عند المرأة ، وفى هذه السن تبدو المرأة عصبية قلقة مضطربة ، ولهذا كانت تذهب إلى الحلاق وتجلس على الكرسى الضخم ، وهى فى أشد حالات القلق والتوتر العصبى ..
وكان صاحب المحل يستقبلها مرحبا محنيا ظهره مقدما إليها أحسن عماله ، ولكنها كانت تستقبل العامل المسكين بوجه عابس ، وإذا فرغ من " التسريحة " ولاحظت أنها لاتوافق مزاجها واستدارة وجهها نظرت إليه شزرا وأخذت تسبه ، وكان صاحب الحانوت يستقبل هذا السباب دائما بابتسامة من فمه وانحناءة من رأسه ، ويجلسها على كرسى آخر ويتولى بنفسه إصلاح الأمور ..! فقد كانت زينات هانم من كرائم السيدات ومن أحسن عملائه ..
وذات يوم جاءت كعادتها وكان فى المحل عامل جديد وهو شاب فى السادسة والعشرين من عمره قوى الجسم موفور الصحة ، وجلست على الكرسى ونظرت إليه ، وأزاح شعرها إلى الوراء وابتدأ يعمل ..
وكان من عادتها أن تحرك رأسها يمينا وشمالا أثناء الحلاقة ولا يجرأ واحد من العمال على أن يلفت نظرها إلى هذه العادة الذميمة .. ولكن هذا العامل لفت نظرها بصوت قوى ، فأمسكت برأسها كأنها تمثال ..
وشعرت بأنامله وهى تمسح على شعرها ، ورأت وجهه فى المرآة أمامها فنظرت إليه وصمتت ، وظلت وادعة ساكنة حتى فرغ من الحلاقة فرنت إليه مبتسمة ممتنة ..
ولما أخذت طريقها إلى الخارج وضعت فى يده ورقة مالية من ذات العشرة القروش فتناولها شاكرا ..
وفى اليوم التالى جاءت على غير عادة ..! وكان العامل الجديد مشغولا فانتظرته إلى أن يفرغ من عمله ، واستقبلته باسمة ..
وكانت أكثر هدوءا ووداعة ..
وأغلقت عينيها وسبحت فى عالم الأحلام أكثر من مرة عندما كانت أنامل حسن تجرى فى شعرها ، ولما أكملت زينتها ناولته ورقة مالية أخرى فانحنى ممتنا ..
***
وذات يوم دق جرس التليفون عند الحلاق .. وسمع ميخاليدس صوت زينات هانم وهى تقول بصوت ناعم :
ـ تسمح تبعت لى حسن بكره الساعة خمسة .. فى البيت .. خمسة تمام .. علشان فيه حفلة خيرية ومش حاقدر أمر عليك ..
ـ حاضر يا هانم ..
ووضع ميخاليدس السماعة .. وكتب فى دفتر مذكراته شيئا ..
***
وفى الساعة الخامسة من مساء اليوم التالى ، وقف حسن على باب السيدة زينات هانم وقرع الجرس ، وفتح له خادم أنيقة الباب .. وقادته إلى الداخل ، وجلس صامتا مأخوذا بما حوله من رياش وتحف ..
وبعد قليل جاءت السيدة .. وأدخلته فى غرفة زينتها ..
وحلت شعرها وجلست أمام المرآة الكبيرة .. وأخذ حسن يمشط هذا الشعر فى عناية ودقة .. وأنامله تجرى وراء المشط واستراحت زينات لعمله ، وشعرت بحواسها كلها تتخدر .. ثم أغلقت عينيها وراحت فى حلم ممتع ، وبعد فترة طويلة سألته فى رقة :
ـ مبسوط عند ميخاليدس ..؟
ـ أيوه ..
ـ إن كنت عاوز حاجة قوللى ..
ـ مرسى يا هانم ..
ـ مجوز ..
ـ لا .. ياهانم ..
ـ ليه .. لأ ..
ـ .....
ـ خايف من النسوان ..؟
ـ ......
وصمت حسن وانهمك فى عمله فصمتت .. ثم رآها فى المرآة وهى تديم النظر إليه فى سكون ، فأخذ يرجل شعرها وقد غض من طرفه .. وتركته فى شأنه ، وأغلقت عينيها وسبحت بها الأحلام ، وأقبلت بها المناظر الممتعة وأدبرت ، وتصورته مرة يلثم شعرها .. وأخرى يقبل عنقها من الخلف .. ومرة أخرى ينحنى بكليته عليها فترفع وجهها إليه وتعطيه شفتيها ..
واستفاقت من حلمها على صوته وهو يغلق حقيبته ..
فقالت فى أسف :
ـ خلاص ..؟
ـ خلاص يا هانم ..
ـ مرسى خالص ..
ونهضت من كرسيها ومشت معه نحو باب الحجرة .. وعز عليها أن يتركها هكذا سريعا فتوقفت لحظة عند الباب ومدت يدها فأمسك بها فى راحته وانحنى ليصافحها .. فرفعتها فى حركة سريعة دون وعى منها إلى شفتيه وألصقتها بهما ..
ورفع رأسه ونظر إلى عينيها ورآها تبتسم فى إغراء وفتنة فانحنى ليقبل يدها مرة أخرى ..
فمالت عليه وأعطته ثغرها ..
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشرت القصة فى صحيفة الزمان 18/7/1950 وأعيد نشرها فى كتاب " حدث ذات ليلة "

الخنزير ـ قصة قصيرة



الخنزير
قصة محمود البدوى



اشتغلت فى غمرة الحرب العالمية الثانية فى شركة البحار السبعة للتأمين البحرى ، وهى شركة كبيرة لها فروع فى معظم الموانىء المصرية ، وكان مكتب الشركة فى بور توفيق .. وتشغل الشركة خمس أو ست حجرات فى طابق أرضى على شاطىء البحر .. وكانت غرفتنا تطل على القنال ..
وكنت فى حجرة صغبرة مع أربعة آخرين فيهم مصرى آخر وفتاتان أجنبيتان .. وكان العمل فى الشركة يسير منتظما وسريعا .. ولكن الإيراد قل بسبب الحرب ، والمراكب تحولت عن القناة ودارت حول رأس الرجاء الصالح .. ومع ذلك كنا نعمل فى الصباح وبعد الظهر ..
وكان رؤوف " بك " مدير الشركة فى السويس رجلا ضخم الجسم ، مدور الوجه ، أصلع الرأس ، حاد النظرات ، صارما ، عابس الوجه أبدا من أصل تركى ، وكان يكره المصريين ويحتقرهم ..
وكان يقرأ فى الصحف ويسمع الراديو ، وهو يذيع غرق البواخر فيثور .. ويصب نقمته علينا .. وكان يجىء فى الساعة التاسعة صباحا من كل يوم ومعه كلب أبيض .. وكان منزله قريبا من الشركة ، فكان يقطع هذه المسافة مشيا على الأقدام .. وكان الكلب يظل معه فى المكتب ساعة أو أكثر .. ثم يدخل علينا به .. ويشير على واحد منا بأن يعيده إلى البيت ..
وكان فى المكتب فراشون وسعاة .. ولكنه كان يتعمد أن يكلفنا بهذا العمل ليذلنا . وكان يدخل علينا المكتب مرة أو مرتين فى اليوم ، ولم نكن نشعر به اطلاقا وهو داخل ، كان كأنه يزحف بجسمه الضخم على بطنه ، ولم يكن يسمع لصوت أقدامه حس ..
وكان مع جهله وغبائه ، يسمعنا كلاما موجعا .. ويحب أن يرى كل واحد مكبا على عمله .. وكان ينتقد كل ما نقوم به من عمل ، وكنا نكرهه ونود أن تبتلعه الأرض ، كما كنا نكره الكلب الذى يذلنا به أكثر من صاحبه ، وكان يسكن فى فيلا أنيقة من طابقين .. ومتزوجا من صبية أجنبية لا تتجاوز الثلاثين ربيعا ، وكان لمنزلهما حديقة أنيقة تحيط بها مناظر غاية فى الروعة ..
كان المدير متأنقا فى ملبسه وله كرش ضخم يزحف به إلى الأمام .. يجيد كل اللغات ويذهب إلى نادى الجعران كل ليلة .. وهو ناد أرستقراطى .. يذهب إليه ليرقص ويلعب القمار ويتظاهر هناك وسط الفرنجة بوجاهته وغطرسته ..
وكانت زوجته تذهب معه أحيـانا ، ولكن غالبا ما كانت تبقى فى
فيلتها الأنيقة ، أو تخرج بزورقها الصغير فى عرض البحر للنزهة . وكانت " اسبور " أنيقة حالمة ، وكانا يعيشان معا شبه منفصلين ، فقد كان لكل منهما هوايته فى الحياة ..
هو مقامر فظ الطباع ، يحب المجتمعات .. وهى منفردة وادعة ، تحب الطبيعة ومجاليها الرائعة .. تجلس فى النهار فى حديقة منزلها تطالع أو ترسم بعض اللوحات الفنية ، وفى الغروب تخرج بزورقها فى عرض البحر ..
كنت إذا رأيتها فى وسط الزورق وهى واقفة عند الدفة ، وقد حلت جدائل شعرها ، واستقبلت الشمس الغاربة بوجهها ، تحسبها حورية خارجة من البحر ..
***
وكنا نمضى الأيام فى حياة رتيبة فى بور توفيق والسويس .. والحرب دائرة على أشدها .. وهزائم الإنجليز تترى فى كل مكان ، وجنودهم فى الموانىء المصرية مذعورين كالجرزان .. يصخبون ويعربدون .. وكلما توالت هزائمهم اشتد ضجيجهم وصخبهم وهم يسكرون ويمرحون فى المدينة ..
وكانت الفتاتان اللتان تعملان معنا فى المكتب قد انطلقتا مع هؤلاء الجنود وصحبت كل واحدة فى نزهتهـا أختهـا الصغرى والكبرى ..
وأحيانا أمها ..! كان كل شىء يدور فى طاحونة مادية ..
كان الناس يعيشون بحسهم ويلمسون أوراق البنكنوت بأيديهم ، وهم يحسبونها كل شىء فى الحياة ..
***
وكنت أذهب إلى منزل مدير الشركة وأحمل إليه بعض الأوراق ، أو أحادثه فى بعض الشئون ، وكان دائما يحب أن يظهرنا أمام زوجته فى مظهر العبيد .. وكنا نتحمل هذه الاهانة بغيظ مستعر ..
وكنت أراها صباح كل يوم وأنا ذاهب إلى المكتب جالسة فى حديقة منزلها فأحييها ، وكانت ترد تحيتى باسمة ..
ومضت الأيام رتيبة مملة ، وكنت أسكن فى شقة صغيرة فى بور توفيق ، وندر ما أذهب إلى السويس ، وكان الظلام يلف المدينة فى وشاحه الأسود فى الليل ، والهدوء المطلق المخيم عليها فى النهار ، وكنت أقضى النهار فى المكتب ، وبعد الغروب أتمشى فى المدينة ثم أذهب لأنام .. وكنت أمشى دائما على شط القنال حالما مفكرا ..
كان كل شىء يدل على أن هذه الحرب ستطول ، وأن هذه المجزرة البشرية ستنتهى على أبشع صورة .. وكان وجود هؤلاء الذين يسمون أنفسهم جنود الحلفاء فى هذه المدينة ، وفى غيرها من المدن المصرية ، يحملنى على الغيـظ المسـتعر .. ومنظرهم يبعث القرف إلى نفسى ..
وكنت أتمنى هزيمتهم على أبشع صورة .. انهم يمثلون الظلم والاستعباد
والفساد بكل صوره البشعة ..
وكنت أتمشى ذات ليلة على شط القنال كعادتى عندما لمحت زوجة مدير الشركة واقفة بزورقها على بعد قليل منى ، وكنت أود لو أغير طريقى ، ولكنها رأتنى وهتفت بى فى صوت حلو .. فاقتربت .. وكانت واقفة فى وسط الزورق وقد ألقت مرساه إلى الشاطىء .. وكانت ترتدى بنطلونا أزرق وقميصا قصير الأكمام .. ووجهها يلمع وعليه آثار عرق كأنها كانت تعانى جهدا مضنيا ..
وقالت وعيناها مصوبتان إلىَّ :
ـ مراد أفندى ..
ـ نعم ..
ـ اللنش تعطل ..
واقتربت من الزورق صامتا دون أن ألقى نظرة عليها ، وحاولت إدارة الماكينة فلم أستطع ، فقلت لها وأنا يائس :
ـ خليه إلى الصباح ..
وخرجت من الزورق ولامست أقدامها الأرض المعشوشبة .. وتسلقت المنحدر ، واستوت على الطريق ..
وعلى رأس المنحدر سمعتها تنادينى ، فتقدمت نحوها ..
ـ تعال روح معايا .. أنا خايفة ..
ـ خايفة ..؟
ـ أجل .. من الظلام .. ومن الجنود السكارى .. أرجوك ..
ومشيت معها .. وكان الظلام رهيبا حقا .. ولم يكن هناك شىء يسمع والساعة تقترب من الثامنة مساء .. والطريق الطويل الذى يطوق المدينة قاتما موحشا ، وهى تسير بجانبى صامتة .. وترمينى بين فينة وأخـرى بنظرات جانبية طويلة .. وكنت أرى عينيها تلتمعان فى الظلام ، ووجهها يلمع بوضوح فى الليل الساكن ..
كانت طويلة القامة رشيقة الحركة .. وكان جسمها لينا مرنا ، وحركتها رشيقة ، وبدا لى وأنا سائر بجوارها أن أرى أينا أطول فاقتربت منها حتى كاد يلامس كتفى كتفها .. وقبل منزلها بشارعين .. توقفت وهممت بالانصراف ..
قالت :
ـ تعال لغاية البيت أرجوك ..
وألحت .. فرفضت ..
ـ أنت خايف منه ..؟
ـ طبعا ..
ـ هل يخيفك هذا الثور ..؟ انه لاشىء فى نظرى ..!
ـ ولكنه فى نظرنا كل شىء ، انها لقمة العيش ، وأنت لاتعرفين
الفقر أو الجوع ..
ومدت يدها .. وقالت بصوت حلو :
ـ شكرا ..
وسلمت عليها وانصرفت وابتلعنى الظلام ..
***
وكنت كلمـا ذهبت إلى منزلها لبعض العمل استبقتنى لتتحدث معى .. وكانت تكلفنى ببعض أعمال صغيرة ، وتسر جدا عندما أقوم بها على وجه سريع ..
ومضت الأيام ..
وذات مساء .. رأيتها خارجة بالزورق فى عرض البحر ، ولما شاهدتنى من بعيد .. أشارت إلىَّ بأن أقترب .. ولما اقتربت منها ألقت بالزورق إلى المرساة ودعتنى إلى الركوب ..
فرفضت وألحت ..
فقلت لها :
ـ ان هذا جنون ..! قد يشاهدك أحد ..
ـ سأسير بالزورق إلى نهاية المدينة من الشمال وانتظرك هناك ..
ولم تسمع جوابى وسارت .. وتبعتها وأنا مدفوع بقوة لاقبل لى على
ردها .. ووجدتها راسية هناك فى جوف الخليج ، فركبت بجوارها وسارت فى عرض البحر .. وبعد قليل أوقفت المحرك ، وقالت وهى تنظر إلىَّ :
ـ دعنا نتمتع بجمال الطبيعة المحيط بنا ..
ولم يكن هناك جمال حولى سواها .. وأشعلت سيجارة وزمتها بين شفتيها الحالمتين ، وكانت تعرف أننى لا أدخن ، ومع ذلك قدمت لى سيجارة فأشعلتها ، وأنا أنظر خلال الدخان الأزرق إلى أعماق عينيها وأغوار نفسها ..
وسألتنى وقد ألقت بنظرها بعيدا ..
ـ أتحب الحياة ..؟
ـ أجل ..
ونظرت فجأة إلى شىء أسود يطفو على الماء ..
ـ أنظر ..
ونظرت إلىَّ فى خوف ..
ـ لا تخافى .. انه حيوان القرش ..
ولكنها ارتعدت وارتمت على صدرى والتصقت بى .. وبعد برهة وجدت شفتيها تحت شفتى ، فضغطت عليهما فى عنف وغبنا عن الوجود ..
***
ومضى اسبوع كامل لم أرها فيه ، وانشغلت بالحياة وما يجرى فيها فنسيتها ..
وذات غروب كنت نازلا من سلم بيتى الصغير فشاهدتها مارة فى الشارع .. وانتظرت حتى اقتربت منها وسألتنى :
ـ أهذا بيتك ..؟
ـ نعم ..
ـ ما أجمله ..؟
ـ ..........
ـ أتقيم وحدك ..؟
ـ أجل ..
ـ غدا سأخرج بالزورق .. وانتظرك هناك ..
ـ أرجوك أن تعفينى من هذا أرجوك ..
ـ ألا تزال تخاف من هذا الخنزير ..
ـ طبعا ..
ـ انه ليس برجل على الاطلاق ، سأنتظرك غدا عند الخليج .. بعد الغروب ..
***
وترددت فى الذهاب ، ثم ذهبت أخيرا وكانت هناك .. وكانت لى
بكل جسمها ونفسها ..
ولمحت وأنا خارج معها من الزورق شخصا يرقبنا عن بعد ثم يختفى فى الظلام ، وكان فى شكله ومشيته بعينه زوجها ، ولكننى كتمت ما رأيت عنها .. واضطربت ضربات قلبى ..
وودعتها وفى رأسى خواطر مروعة ..
***
وذهبت إلى المكتب فى الصباح وأنا أحاول أن أبدو طبيعيا ، واجتهدت أن أقرأ شيئا على ملامح الرجل يدل على أنه كان يراقبنا ليلة أمس .. ولكننى وجدته على حاله ، فأيقنت أننى أخطأت النظر واطمأن قلبى ..
***
وأخذت تجىء بعد ذلك كلما سنحت لها الفرصة ، وكنت أحذرها من مغبة هذا ، ولكنها كانت لاتسمع كلامى ..
وسألتنى مرة :
ـ أتحبنى يا مراد .. أم تنتقم منه فى شخصى ..؟
ـ أقول لك الحق .. أننى لا أعرف ..
ـ وظهر على وجهها الغضب ، وارتدت وشاحها .. وخرجـت
معها إلى الباب الخارجى .. وفوجئنا ونحن نجتاز العتبة بزوجها فى أسفل
الدرج ..
ونظر إلىَّ باسما ثم أخرج غدارته فى لمح البصر وصوبها .. وارتمت هى فى تلك اللحظة على صدرى ، فأصابتها الرصاصة وهوت إلى الأرض ، وأخرجت مسدسى وأطلقته سريعا وأطلق هو .. ورأيته وهو ساقط ..
وسقطت أنا على حافة السور مثخنا بالجراح ..







====================================
نشرت القصة فى مجموعة قصص لمحمود البدوى بعنوان " عذارى الليل " سنة 1956
====================================

حانة المحطة ـ قصة قصيرة



حانة المحطة
قصة محمود البدوى



فرغنا من حصاد القمح وكومناه فى الأجران ودارت على القش النوارج .. وتركت كل شىء فى حراسة الشيخ عبد الحفيظ ، وركبت الفرس إلى حانة المحطة لأقرأ الجرائد وأعرف أحوال الدنيا والسوق .. وهى حـانة صغيرة على مسيرة ثمانية أميال من العزبة يملكها رجل يونانى ، وهى المكان الوحيد فى تلك المنطقة الفقيرة الكئيبة الذى تحس فيه بالحياة .. وتجد فيه فنجانا من القهوة وكوبا من الماء النقى .. وقد جعلها الرجل تحت أنظار الذين يخرجون من قطارات الركاب التى تقف على محطة بنى نافع ..
فهى قهوة صـغيرة وبار وبقـالة فى الدور الأرضى .. ثم سرير واحد .. فى الطابق الثانى للموظفين والتجار الذين يتخلفون من قطار الليل ولا يجدون سيارة أو ركوبة تنقلهم إلى بيوتهم .. ولكن نزلاء هذه الغرفة كانوا قليلين جدا على مدار السنة .. ولم يكن مخالى يحسب لهم حسابا .. ولهذا أقام هذا الطابق هو وزوجته .. وكانت عنايتة كلها متجهة إلى الحانة ..
وفى هذه الحـانة كنت أستريح كلما نزلت من القطار حتى تجىء
الركوبة التى تنقلنى إلى العزبة وأعود إليها كلما أحسست بالفراغ والوحشة ..
وكان من زبائن الحانة المستديمين توفيق أفندى ناظر المحطة ثم عبد الجواد أفندى أمين شونة بنك التسليف .. ثم السيد حسن عبد المجيد وهو شاب مثلى من المزارعين وكان مقطوع الرجل اليسرى ولكنه خير من يركب على سرج وأبرع رجل فى الرماية ..
وكانت مدينة ديروط تبعد عنا ساعة كاملة فى القطار .. ولكننى لم أكن أحس فى محطة بنى نافع الصغيرة بالوحشة ..
وكان توفيق أفندى يحمل إلىَّ كل الجرائد والمجلات التى جاءت فى قطار الظهر .. وعطية الفراش يخدمنى ويذهب إلى كل مكان ..
ويجىء بالطعام من عند مخالى إذا ما رأيت أن آكل فى المحطة ..
وكنت أقرأ الصحف وأنا أستظل بشجرة فى داخل المحطة وأسمع حركة القطارات وصفيرها وجلجلتها على القضبان .. وحركة السيمافورات التى تفتح وتغلق كلما مر قطار .. وأرى أسلاك التليفون والبرق وهى تهتز وأعمدتها تئز كلما مر الاكسبريس وهو يثير زوبعة من الغبار ..
وكنا نسهر فى الحانة ونسكر .. وكان يمر علينا تجار الغلال والماشية فنعرف منهم كل أحوال السوق .. فإذا ما مر قطار الساعة الحادية عشرة ليلا وهو آخر قطار يقف فى المحطة .. فرغت القهوة والبار من روادهما .. وجلس توفيق أفندى وعبد الجواد أمين الشونة وحسن عبد المجيد حول المائدة يلعبون القمار وكنت أجلس لأتفرج ولا أشترك معهم فى اللعب إلا قليلا ..
وكانوا يلعبون فى أكثر الحالات إلى الصباح .. ثم يذهبون إلى عملهم محطمين من التعب وأعود أنا إلى العزبة لأنام إلى الضحى .. وكان مخالى يتقاضى جنيها كاملا أجرا للمائدة .. وكنا نصرف أضعاف هذا المبلغ على الطعام والشراب ، والواقع أنه كان يعتمد علينا اعتمادا كليا ..
وكنت قد شغلت كلية بالحصاد ، فلم أذهب إلى الحانة طيلة أسبوعين ، فلما عدت إليها بعد هذه الغيبة وصعدت إلى الدور الثانى كعادتى لأغسل وجهى من تراب الطريق لمحت فتاة جالسة فى الغرفة الداخلية وكان وجهها إلى النافذة .. وظهرها إلىَّ فلم أتبين ملامحها ، وإنما رأيت ثوبها وجسمها وهى جالسة على الأريكة .. ولما أخذت طريقى إلى السلم لمحتنى فأعطتنى نصف وجهها ..
***
وأصبحت أرى الفتاة كلما جئت إلى الحانة .. وكانت تساعد مدام مخالى فى عملها ، وعلمت أنها أخت المدام ، وأنها كانت تعيش فى الإسكندرية وجاءت بعد أن مات زوجها .. ولم أكن أبيت فى حانة المحطة قط .. وإنما كنت أستريح فقط فى النهار على كنبة أو حشية فى ساعات القيلولة .. ولكننى بعد أن وقع نظرى على " أتينا " واستملحتها ، كنت أصعد إلى الدور العلوى .. لأستريح فى النهار والليل .. وبدلا من تناولى الطعام فى البار كنت آكل فى الطابق الثانى ، وكانت أتينا تعد لى المائدة وتقدم الطعام والشراب .. وكنت أشرب الكونياك فى أغلب الأحيان وأظل أتحدث مع مدام مخالى وأتينا .. حتى أسمع صياح حسن عبد المجيد فى الدور الأرضى فأعرف أنهم بدأوا يلعبون القمار .. وكانوا يلعبون يومين أو ثلاثة فى الأسبوع .. دون انقطاع عندما كان يكتمل عددهم ويعود الموظفون منهم الذين ذهبوا للتفتيش .. والواقع أنهم كانوا جميعا يحسون فى أعماقهم بالتعاسة ويشكون من الخمول والفراغ ، وكانوا يحسون بالفراغ أكثر فى المساء إذ لم يكن هناك ما يشغلهم على الاطلاق وكنا نشكو جميعا من الملال والضجر ، ونجد فى حانة المحطة البلسم لجراحنا . وكنا فى أيام الصيف المتقدة نتعذب من الغبار والذباب والظلام الذى حولنا وفى نفوسنا .. فإذا فرغنا من أيام الحصاد وجمعنا المحصول .. طرنا إلى المدينة لننعم بما فيها من أنوار ..
وكانت حانة المحطة التى تضاء " بالكلوب " هى مقصدنا والنور الوحيد فى الظلام المحيط بنا ..
وكنت عندما أسمع صياح حسن ورفاقه فى الدور الأرضى أهبط إليهم وأحاول أن أعيدهم إلى الهدوء .. وكانوا يلعبون القمار كمحترفين وتستغرق اللعبة حواسهم كلها .. وكنت أراقبهم عن كثب وأدرس وجوههم وانفعالتهم .. وكان الواحد منهم يتشاءم لمجرد تغيير الكرسى الذى يجلس عليه والكوب الذى يشرب منه .. أو إذا وقف مخالى على رأسه .. أو إذا وضعت له أتينا الكأس على حافة المائدة من الناحية اليسرى ..! كانوا يتشاءمون من أشياء تبعث على الضحك .. وكان القمار يستغرق حواسهم فلم ينظر أى واحد منهم إلى أتينا نظرة اشتهاء رغم أنوثتها الصارخة ، ولقد أدركت من هذا سلطان القمار على النفس .. فهو يقتل الرغبة فى النساء .. وهذا أعظم سلطان ..
وكان مخالى يغلق باب الحانة المؤدى إلى الشارع .. ويبقى الباب الداخلى الصغير المفضى إلى الدور العلوى ..
وكانوا ينتهون من اللعب فى الساعة الثانية أو الثالثة صباحا .. ويخرجون صفر الوجوه محطمين جميعا جائعين إلى النوم ..
وكان الذى يكسـب فى أغلب الحالات هو عبد الجواد أمين الشونة .. وقد عجبت أول الأمر للحظ الذى يواتيه على طول الخط ثم علمت أنه يغش فى اللعب ، وكان سكيرا ومقامرا ومرتشيا ، ويسرق من محصـول الفلاحـين المساكين الذى يقدمونه للشونة فى عملية الحيازة .. فيأخذ من كل اردب كيلة كاملة لنفسه يسرقها فى الميزان ..
وكان جميع الفلاحين يعرفون ذلك .. ولكن ما ما من واحد منهم كان يستطيع أن يفتح فمه ..
ولم يكن يفعل هذا إلا مع صغار الفلاحين ، أما كبار المزارعين .. فكان يخشى بأسهم ويتقرب إليهم ويجعل منهم ستارا وحماية ..
وكان قد أخذ يشترى الأطيان من الفلاحين بعد أن يقرضهم بالربا الفاحش ويجدوا أنفسهم عاجزين عن السداد . ثم أخذ يستأجر العزب الكبيرة ويؤجرها للفلاحين .. وكان حسن عبد المجيد يكرهه لهذا ويجد فيه دخيلا على المنطقة ومنافسا خطيرا وكانت هذه الأحقاد المكتومة تنفجر فى ساعة القمار ..
ولم أكن أنا أشفق على أحد منهم إذا ما خسر فى الليلة الواحدة خمسة أو عشرة جنيهات ، لأنهم أثرياء ويأتيهم المال من عرق الفلاح المسكين .. وإنما كنت أشفق على توفيق أفندى ذلك الموظف المسكين الذى جره الفراغ والتعاسة إلى هذه اللعبة القاتلة ..
***
وذات ليلة نمت فى الدور العلوى من الحانة لأننى كنت قادما من ديروط ولم أجد الركوبة فى انتظارى لتنقلنى إلى العزبة ..
وأعدت لى مدام مخالى سريرا نظيفا .. وعشاء ساخنا .. فجلست بعد العشاء أدخن .. وأنظر من نافذة الغرفة إلى ما حولى من ظلام وسكون .. وكانت المحطة هناك على مرمى البصر وليس فيها أى شىء سوى مصباح ضئيل أحمر .. تتراقص ذبالته كلما تحرك الهواء ..
وكان الشىء الوحيد الذى يسمع صوته هو أسلاك البرق وحركة السيمافورات الأتوماتيكية . وكان خفير المحطة يتحرك فى الظلام على الرصيف مقبلا مدبرا .. ثم يضع البندقية بين رجليه ويجلس على زكائب من الغلال فى انتظار الشحن .. وكان منظر مكتب التذاكر ومكتب الناظر وخلفهما بستان من النخيل قد زاد المكان جهامة ووحشة .. وكانت أنوار القرى الصغيرة تبدو من بعيد .. وبعض الفلاحين يشعلون النيران فى الحقول . أما قرية نافع والعزب المجاورة لها فقد كانت غارقة فى ظلام دامس وليس فيها أى دليل على الحياة ..
ومر قطار بضاعة طويل وكان قادما من أسيوط وأخذ يصفر .. فبعث الحياة فى المكان ..
وكان الجو حارا فتركت الباب والنافذة مفتوحتين ليمر الهواء وأطفأت المصباح البترولى وتمددت على السرير وقد شعرت بطراوة الهواء وبالسكون .. وسمعت صوت مخالى وهو داخل فى الردهة لينام .. ثم أحسست بنور غرفته يطفأ وبقى فقط المصباح البترولى الصغير فى الردهة .. وكان يلقى ضوءا لينا على مدخل البيت ..
ومرت أكثر من ثلاثين دقيقة أخرى وأنا متيقظ ثم رأيت نورا جديدا يدخل الردهة .. وبابا يفتـح .. ودرت نصف دورة على السرير .. ورأيت أتينا فى غرفتها من بابها المفتوح .. تجلس نصف منحنية على الكنبة الوحيدة .. وفى يدها سيجـارة .. ولم أرها تدخن قبل هذه اللحظة .. وخيل إلىَّ أنها تأكل السيجارة ولا تكتفى بسحب دخانها .. وكان شعرها يغطى نصف وجهها وقميص نومها ينحسر عن الساق اليمنى حتى الفخذ ويغطى الساق الأخرى كلية .. وبدت خطوط جسمها واستدارة كتفيها وضغطة الرأس الصغير على العنق .. وانتصبت وغابت عن بصرى لحظة وعندما عادت إلى مكانها .. انحنت قليلا على المصباح لتخفف من نوره ..
ثم تلفتت كأنها تبحث عنى أو كأنها تخشانى .. ثم استقر رأيها .. وأخذت تخلع القميص وفى نفس اللحظة أغلقت عينى .. كأننى لا أستطيع الصمود أمام هذه الفتنة الطاغية .. وسمعت بعد دقيقة واحدة المفتاح يدور فى قفل الباب ..
***
وفى الصباح دخلت علىَّ الغرفة بصينية الشاى وسألت :
ـ نمت كويس ..؟
ـ خالص .. هواء جميل ..
ـ الغرفة الثانية بحرية وفيها هواء أكثر .. تعال شوفها ..
ومشيت وراءها إلى الغرفة التى نامت فيها .. ورأيت آثار جسمها على السرير ..
ـ أعجبتك ..؟
ـ طبعا هذه أحسن .. ولكنك تنامين فيها .. فهى لك ..
ـ لا .. سنجعلها لك .. حتى تنتهى من المحصول ..
ـ لقد أصبحت ريفية وتعرفين المحصول .. ومواعيده ..
ـ عشت طويلا فى الريف .. فى نجـع حمادى .. فى البلينا .. فى المنيا ..
ـ قبل الجواز ..؟
ـ وبعده ..
ـ وستمكثين طويلا هنا ..؟
ـ لا أدرى .. وقد أسافر فجأة .. كما جئت فجأة ..!
وكنا نتحرك تجاه الباب معا ..
وعند المصراع المفتوح اقتربنا وكدنا نلتصق .. ورأيت صدرها العارى يتحرك مع أنفاسها .. وأخذت أقاوم رغبة عنيفة فى ضمها إلى صدرى .. فوقفنا دون حركة على العتبة نصف دقيقة كاملة ونحن نتبادل النظرات الملتهبة .. وسمعت صوتها أشبه بالهمس :
ـ اتفضل ..
فتحركت إلى الخارج وكأنى خارج من دوامة ..
***
وأخذت أبيت عند مخالى .. وأباشر عملى فى العزبة .. وازددت قربا من أتينا .. وكانت تحادثنى بحرية المرأة التى خرجت إلى الحياة .. وذهبت إلى أكثر من مدينة وعرفت ألوانا وأشكالا من الناس ..
وكانت امرأة ككل النساء اللواتى عرفتهن فى الحياة .. لكن كانت غليظة الشفة سوداء الشعر جدا .. واسعة الفم والعينين .. وكان صوتها أشبه بصوت الكروان .. وكنت أسمها تغنى غناء خافتا وهى تعمل فى المطبخ ، وبدا لى أن أسألها هل اشتغلت بالغناء ، فقد كانت تغنى وكأنها تصاحب الأوركسترا ..
وكان مخالى يقدم الطعام لمعظم الموظفين وتجار المواشى والغلال الذين يمرون فى المنطقة فى فترة المحصول .. لأن القرية كانت بعيدة عن المحطة .. وكانت زوجته وأتينا تصنعان الطعام كله .. وكانت الفلاحات يحملن له حتى الباب كل ما يحتاج إليه .. الطيور والبيض والخضار ويختار منها أجود الأصناف .. وكان الفلاحون يقولون عنه أنه جمع ثروة طائلة لأنه يعمل فى الريف المصرى منذ أربعين سنة ..
وبعد العمل فى البيت ، كانت أتينا تجعل كل وقتها لى .. وشعرت نحوها بالحب الممزوج بالشفقة لأن مخالى كان يتقاضى أجر اقامتها عنده أضعافا مضاعفة .. ويجعلها تعمل خادمة وطاهية وغسالة وحائكة للملابس ..
كل الأعمـال التى تجيدها النسـاء ، ويحرمها من لذة الحب والراحة ..
وكانت إذا رأتنى فى الظهر وأنا أستريح ساعة القيلولة يبدو الفرح على وجهها .. لأننى الوحيد بين الذين رأوها الذى أعارها انتباهه ..
وكنت معها ذات غروب عندما لمحت وأنا أحرك يدى على صدرى خطا أسود بجانب الكتف ..
فسألتنى :
ـ جرح ..؟
ـ رصاصة قديمة ..
وفتحت فمها من الذعر فقلت لها بأسى :
ـ رصاصة أطلقها أخ لحسن .. الشاب المقطوع الرجل الذى ترينه فى الحانة .. وكنا فى سامر ورأى الراقصة .. فاهتاج وأطلق الرصاص ليفض السامر .. وأنا من وقتها وأنا أكره السامر والسمر .. والنساء ..
وسألتنى وهى باسمة :
ـ ولماذا تعيش فى الريف ..؟
ـ ما من ذلك بد .. جئت مضطرا بعد وفاة والدى .. وكنت أود أن أدير شئونى وأنا فى المدينة .. ولكننى وجدت أن ذلك مستحيل .. فأنا أسرق وأنا موجود من حراس الزراعة ومن الفلاحين ويضيع ربع المحصول .. فكيف إذا غبت عنهم ..
ان الفلاح يعتقد أننا نأخذ منه قوت عياله .. وهو على حق فى اعتقاده لأنه يشقى .. ويفلح الأرض ويعمل طول السنة .. ونحن لانعمل أى شىء ونستولى على المحصول . فهو مظلوم من مئات السنين ويحس بالظلم أكثر عندما يرى غرسه يذهب لغيره .. وبشعور الظلم هذا يسرق ويقتل ويفعل كل ما ينفس عن هذا الظلم .. وعندما جئت إلى هنا منذ عشر سنوات حاولت أن أكون عادلا ، فأعطيت الكثير منهم فدانين وثلاثة .. ليزرعوها لأنفسهم نظير ايجار معقول .. وبذلك يحسون بكرامة الإنسان ..
ـ ولماذا لم تتزوج .. أما زلت تكره النساء ..؟
ـ فى الواقع لايوجد سبب معقول .. وقد أكون استطبت هذه الحياة .. والآن فات الأوان ..
ـ لماذا ..؟
ـ هذا هو احساس الرجل بعد سن الثلاثين ..
ـ ولكن الزواج قبل هذا حماقة ..
ـ الرجل يتزوج فى سن العشرين فى الريف .. فإذا ضاعت منه الفرصة فى هذه السن .. فاته القطار ..
ـ ولكنك فى أنسب سن الزواج ويجب أن تتزوج ..
ـ ولماذا تصرين على زواجى ..
ـ لأنى أخشى عليك من الخمر .. والقمار .. أخشى عليك من الدمار ..
ـ ولماذا لاأسكر وأشرب وأنا متزوج ..؟
ـ لأنك لن تشعر بالفراغ .. ولا بالتعاسة التى يخلقها الفراغ المطلق للإنسان .. عندما يكون فارغا يدور حول نفسه .. ولكن عندما تتزوج ستشعر بعظم الحياة ولذة الكفاح لإسعاد أسرة ولاتجد لحظة لتفكر فى نفسك .. تعيش لغرض أسمى ..
ـ ألم يلعب زوجك القمار ..؟
ـ لو كان مقامرا أو سكيرا لقتلته .. ان المرأة تكره هذين كرهها للشيطان ..
ـ ولهذا تكرهيننى ..!
ـ اننى لا أكرهك ..
ـ ولا تحبيننى كما ..
ـ باستا .. باستا ..
ولا أدرى لمـاذا اختـارت هـذه الكلمة الإيطالية وخرجت مسرعة ..
***
وذهبت إلى العزبة لأدخل الغلة فى الشونة .. وأقمت فى عريشة ..
وكان النهار يمضى مملا محرقا وليس فيه حركة .. وفى الأصيل كانت تبدو الحركة .. تخرج الطيور لالتقاط الحب والأغنام ترعى .. والجاموس والأبقار والجمال تتحرك فى الحقول .. والنساء يذهبن إلى النيل لملء جرارهن .. وكانت طريقهن بجوار العريشة .. ولكنهن لاحظن وجودى فغيرن الطريق إلى أبعد .. فإن وجودى فى العزبة كان يقيد من حريتهن ..
وفى الصباح كن يذهبن .. لملء الجرار قبل أن تطلع الشمس وكنت أراهن راجعات من النيل ، وأرى واحدة فى كل سرب وقد ابتل ثوبها والتصق بجسمها ، فأعرف أنها نزلت فى النيل لتستحم وهى لابسة جلبابها الوحيد ..
وكنت أرى تقاطيع هذه الأجسام جميلة طبيعية تبدو فى نضارتها وفتنتها ، وأشعر بلسعة كأننى اكتويت بالنار ..
وكنت أتمشى ذات يوم بعد الفجر على الطريق الزراعى الضيق المؤدى إلى الشـاطىء ، ولمحـت من بعيـد ثلاثا من النسـاء يمـلأن " البلاليص " وقد شمرت إحداهن عن ساقيها وفخذيها .. وحلت شعرها وخلعت جلابيتها السوداء وبقيت فى قميص .. وأخذت تدعك ساقيها وفخذيها بالصابون ، وبصرت بى إحداهن .. فحدثت زميلتيها ، فظهر الذعر عليهن جميعا وغصن بملابسهن فى الماء ..
وتراجعت آسفا ضاحكا ولم أذهب إلى هذا المكان مرة أخرى ..
وعندما انتهيت من نقل الغلة إلى شونة بنك مصر رجعت فى الليل إلى حانة المحطة .. وطلبت من أتينا أن توقظنى قبل قطار الركاب فى الساعة الرابعة صباحا ..
فقالت :
ـ ولماذا تنام .. ابق صاحى أحسن ..
ـ سأنام ولو ساعتين .. وأرجو أن ألحق القطار ..
وبعد ساعة جاءت ضاحكة ونادتنى ..
ـ يا سيد ابراهيم .. اصح الساعة قربت على الرابعة ..
ـ كم الساعة حقا ..؟
ـ نصف الليل ..
كانت واقفة على العتبة وممسكة بيدها اليمنى مصراع الباب من أعلى وواضعة خدها على يدها .. وثانية رجلها اليمنى .. نصف مسترخية ونصف حالمة ..
فقلت لها وأنا مسرور بجمالها :
ـ ما أحلاك الليلة ..
ـ ألأنى أيقظتك .. تقول لى هذا الكلام ..
ـ لم أنم ..
واستويت على أرض الغرفة .. ورأيت النيل تبدو صفحته تحت ضوء القمر .. ومركبا واحدا يسبح ضد التيار ..
وقلت لها :
ـ اننى كلما رأيت مركبا على النيل .. تخيلتك معى هناك .. ولا أحد سوانا ..
ـ هل أعمل لك شاى ..؟
ـ هل فى كلامى ما يسوء ..؟
ـ لا .. ولكن ما هى النتيجة ..
ـ وهل من الضرورى أن يكون لكل شىء نتيجة ..
ـ هذا ضرورى .. بالنسبة لإحساسى كأنثى ..
على أى حال أنا أعتبر نفسى سعيدا .. سعادة لا تقدر ..
ـ لماذا .. من الغريب طبعا .. أن تصادف امرأة شابة مثلى فى حانة وتجد شبه فندق فى هذا المكان .. فى قلب الصعيد .. وأنا نفسى تساءلت لماذا اختار مخالى هذا المكان المقفر ليجعله مورد رزق له .. ثم علمت أن سوق القرية كان قريبا منه عندما اختار هذا المكان .. ثم انتقل السوق إلى ضفة الابراهيمية القريبة وبقى مخالى هنا ، على أى حـال لقـد أصبح كهلا .. ويريد أن يستريح ، لقد أدى دوره فى الحياة ..
ـ وأنت ..؟
ـ لقد انتهى دورى قبله .. وأسدل الستار ..
ـ انك شابة جميلة .. وأمامك الحياة الضاحكة بكل ما فيها من سعادة ..
ـ انك لاتفهم شعور المرأة عندما يموت زوجها وهى صغيرة .. ويكون هو شابا مثلها .. يصيبها خدش طويل كهذا الذى تراه على لوح من البللور ..
ـ هل كنت تحبينه ..؟
ـ إلى درجة العبادة .. كان شابا مثلك .. طويلا قويا .. وكان يكسب .. وكله أمل فى المستقبل .. ولكنه ذهب .. كالحلم .. ما من شىء يبقى فى الحياة ..
ـ اننى أفكر فى الذهاب إلى القاهرة لأقضى عشرة أيام بعد أن انتهيت من القمح .. فهل تذهبين معى ..
ـ لا ..
ـ لماذا ..؟ لأننى مصرى أولا وريفى ثانيا .. وستشعرين معى وأنت أجنبية بأنك غريبة عنى ..
ـ هل من الضرورى أن أقول لك أننى بقيت عند مخالى .. لأنك جئت وليس لأننى أستطيب الحياة هنا ..
ـ أعرف أنك مستريحة لوجودى ..
ـ لماذا إذن تكثر من الكلام ..
ـ لأننى أحببتك من أول لقاء ..
ـ باستا .. باستا ..
وخرجت ضاحكة ..
***
وذات ليلة عدت من العزبة متأخرا وقبل أن نقترب من المحطة .. دوى الرصاص قربنا .. وعرفت أنا والخفير الذى معى أن اللصوص سرقوا ماشية من الحقول .. وأحس بهم خفراء النقطة .. فاشتبكوا معهم فى معركة حامية .. ولا أدرى من الذى أشاع أننى قتلت .. فقد خرج الفلاحون بسلاحهم لملاقاتى .. وعندما وجدونى حيا .. التفوا حولى يهنئونى .. وانصرف الناس .. وبقيت فى الحانة مدة ساعة .. وجاء مخالى والمدام .. مسرورين .. بحياتى .. ولكن لم أر أتينا .. فتألمت وتصورتها سافرت .. ولكن عندما صعدت لأنام .. وجدتها واقفة وحدها فى الظلام على بسطة السلم ، وعندما اقتربت منها ارتمت على صدرى وشدتنى إليها وهى تبكى دون صوت ..
وقلت لها هامسا :
ـ اتركى باب غرفتك مفتوحا الليلة ..
فقالت وهى تمرغ خدها على لحمى :
ـ فوق .. فى السطوح .. أحسن ..
ولم أنم ، وبعد نصف الليل جاءت حافية ترتدى قميصا واحدا .. وطلعنا إلى السطح .. ولم نجد أى شىء نفرشه على التراب .. فخلعت قميصها ..
وسألتنى وأنا أمسح بيدى على شعرها :
ـ ألم تحب .. قط ..؟
ـ قبلك .. لأ ..
ـ وهل بيننا حب ..؟
ـ جنون ..
ـ تقول هذا الآن لأنه مضى عليك شهر وأنت بعيد عن المدينة .. وعن النساء .. ولكن عندما ترجع إلى هناك ستنسى .. تنسى كل ما حدث ، أنك تحب الأرض التى تزرعها .. ولا شىء غير ذلك .. وأنا لست عندك أكثر من بقرة .. فلا تخدعنى ..
ـ وهل أنا ملتصق بالأرض إلى هذا الحد ..؟
ـ ولكنـك التصقت بها .. وكل النـاس يتحدثون عنك .. كفلاح .. يعيش للأرض .. لأنها تعطيك أكثر من أى شىء آخر فى الحياة ..
ـ وهل يمنعنى هذا من الحب ..؟
ـ حب ريفية مثلك ..
ـ يعنى أقطع الأمل إلى الأبد ..
ـ أنا حبيبتك ما دمت هنا ..
ـ إذن سأظل هنا حتى الموت ..
وشعرت بها تمسح بشفتيها على جرحى .. وسألت :
ـ هل تتألم من هذا الجرح ..؟
ـ انه مات ..
ـ آسفة .. كنت أحب أن أولمك ..
ـ بأسنانك ..
ـ وبأظافرى .. أريد أن أجعلك تدمى .. هذا شعور غريب .. ربما لأنك أقوى .. ولأنك رجل .. لا أعرف ..
وظللنا نتناجى حتى طلع القمر ..
***
وفى الليلة التالية .. قمت فزعا من نومى على صياح فى الحانة .. ثم تبينت صوت توفيق أفندى .. ثم صوت حسن عبد المجيد .. وعلا الصياح فنزلت مسرعا .. ووجدت توفيق أفندى يستعطف ويبكى وهو فى حالة يرثى لها .. فقد خسر عشرين جنيها .. ولم تكن نقوده ، وإنما كانت ايراد المحطة .. وقال لهم وهو يبكى أنه سيسجن .. وتوسل إليهم أن يعطيه كمبيالة بأى مبلغ نظير أن يرد إليه نقود الحكومة ، وكان يخاطب عبد الجواد أمين الشونة لأنه هو الذى كسب منه المبلغ .. ولكن عبد الجواد لم يستمع إلى رجاء .. وتدخلنا جميعا ولكنه أصر على عدم رد مليم واحد .. وهنا ثار حسن عبد المجيد .. ووقف يزأر :
ـ أعطه الفلوس .. طلعها من جيبك حالا ..
ـ بأى حق ..؟
ـ لأنك لص وغشاش .. وحقير .. ومرتشى .. وكل الناس تعرف عنك هذا ..
ـ أنا يا كلب ..
ـ أنا كلب يا حرامى ..؟ خد ..
وأخرج حسن مسدسه سريعا وأطلق النار .. وسقط عبد الجواد صريعا .. وبين دوى الرصاص والصياح والذعر .. ظهرت أتينا على الباب وكنت منحنيا على عبد الجواد فحسبتنى أنا الذى أصبت .. فجرت وارتمت على صدرى ..
وفوجىء الحاضرون وأخذوا بهذا المنظر .. حتى نسوا من فرط الدهشة القتيل الذى سقط منذ لحظة ..









====================================
نشرت القصة بمجلة الجيل فى 27/6/1955 وأعيد نشرها فى مجموعة قصص لمحمود البدوى بعنوان " الأعرج فى الميناء "
====================================

امرأة أحلامى ـ قصة قصيرة



امرأة أحلامى
قصة محمود البدوى



اعتدت أن أصيف كل عام عند سيدة أجنبية تقيم فى الرمل ، وكانت امرأة غربية الأطوار بادية الشذوذ ، تحيط نفسها وبيتها بجو من الهدوء المطلق، فلا تحب أن ينزل عندها أحد من المصيفين على الرغم من أنها كانت فى أشد الحاجة إلى المال ، وكان نفورها من جنس الرجال لاحد له ..

فقابلتنى فى أول الأول بمنتهى الحذر والتحفظ ثم أنست بى على ممر الأيام .. وكنت لا أرى طوال مدة إقامتى معها رجلا غيرى يدخل المنزل .. فهى تدع عند السلم الخارجى حقيبة صغيرة من القماش يلقى فيها باعة الخبز والخضار واللحم ما تحتاجه لطعامها .. فلا يراها منهم أحد ولا تراهم ..

وكانت غرفتى تطل على البحر وبعيدة عن غرفتها ، فكنت لا أراها ولا اسمع صوتها إلا نادرا .. بيد أننى كنت أسمعها تتحدث عصر كل أحد مع امرأة علمت أنها جارتها ، وأنها المرأة الوحيدة التى تزورها ..

ومرت الأيام وأنا لا أسمع إلا صوت المرأة وهى تناغى القطط ، أو تحادث نفسها .. !

وكان الهدوء الشامل الذى يخيم على البيت يحبب إلىَّ الإقامة فيه جانبا كبيرا من النهار والليل ..

فكنت أجلس فى الشرفة وأشرف على البحر، وأمتع بصرى بما يحيط بى من مناظر الطبيعة الخلابة .. وأنا لا أسمع فى أرجاء المنزل إلا دقات الساعة المعلقة فى البهو ، وهى تدق من حين إلى حين ..

وكان هذا الصمت يحملنى على التأمل ، وتوجيه نظرى إلى هذه المرأة لأعرف علة وحدتها المرة .. بيد أننى كنت كلما حاولت أن أجر لسانها إلى الكلام لعلى أعرف بعض حياتها ، وبعض سرها أرتد خائبا ..

فهى امرأة من طراز نادر فى الذكاء والحذر .. ومن اللواتى يقلن لك بأعينهن إذا ما تجاوزت معهن الحد فى الحديث إلى هنا ونفترق .. !

على أن هذا الكتمان كان له اثره السىء على أعصابها ، ووقعة المر على نفسها وجسمها ، فقد بدت عليها عوارض الشيخوخة قبل الأوان .. وثقلت عليها الوحدة فكانت تحتد وتشتد فى الكلام لأتفه الأسباب ..

وساء ظنها بالناس أجمعين ، فكانت تتصور أن خدم العمارة التى تسكنها يتآمرون على قتلها ، وأن إحدى الجارات مشتركة معهم فى تبييت الأمر وتنفيذ الجريمة .. !

وكنت أجاهد لأصرف ذهنها عن هذه الخواطر .. وأعرض عليها التنزة فترفض .. فلا تراها إلا محتبسة فى غرفتها مريضة النفس حزينة ..

لقد كان منظر هذه المرأة يبعث فى نفسى الشجن بأقصى ضروبه .. وكنت أسائل نفسى .. هل هى واحدة من اللواتى لهن ماض مروع ..؟ هل هى إحدى ضحايا الرجل .. ؟ ما معنى هذا الحزن .. وما سبب هذه الوحدة .. أليس لها أقرباء ؟ .. ما من رسالة وصلت إليها .. رسالة واحدة لم تصلها من إنسان طوال مدة وجودى فى بيتها ..

ولما رأتنى ذات يوم أكتب رسالة وأجعل العنوان بإسمها .. نظرت إلى فى أبتسام وقالت :
« إن موزع البريد لا يعرفنى .. فما حمل لى رسالة قط .. أجعل رسالتك على عنوان آخر .. »

كان صوت هذه المرأة الهادئ مشوب بمرارة تقطر حزنا ، إن قلبها يتفطر وجسمها يذوى على التدريج .. لا أنا ولا أحد من الناس يستطيع أن يفعل شيئا لأجلها الآن .. لقد خرج أمرها من يدنا .. إنها الآن تعيش لنفسها بكل ما تحمل هذه الكلمات من معان ، وحدبها على القطط لا يغير هذه الكلمات ولا يلونها بلون آخر ..

لقد اتجهت عاطفة الرحمة عندها إلى الحيوان بعد أن حرمت من الإنسان ، واتجهت اتجاها قويا فيه حنان أكيد وعطف شديد ..

لقد قمت ذات صباح من النوم فزعا على صوتها وهى تولول وتنوح .. فعلمت أن قطا من القطط قد مات .. واحداً من أبنائها .. كما كانت تنعت هذه الحيوانات دائما .. وأشهد أنى ما رأيت أحداً يبكى على ميت كما بكت هذه المرأة على قطها ..

* * *

جلست ذات يوم ، بعد أن تغديت ، على السرير لأستريح قليلا .. وحملت لى السيدة قدحا كبيراً من القهوة .. فأخذت أشرب وأدخن .. وكان معى كتاب من تلك الكتب القديمة النادرة الطبع التى أغرم باقتنائها ومطالعتها دائما .. إن هذه الكتب تحمل بين طياتها أسرار القرون وعبير الدهور ..

فتحت الكتاب وأخذت أطالع .. وكان باب الغرفة المؤدى إلى فسحة البيت مواربا .. فسمعت صوتا إنسانياً حلواً يرن فى البهو .. واستمر الحديث بين صاحبة البيت ، وصاحبة هذا الصوت الجديد مدة ..

وألقيت الكتاب وتسمعت .. كان صوتا جديداً يختلف عن صوت جارتها .. وانقطع الحديث وسمعت حركة أقدام تقترب من غرفتى .. لم تكن أقدام المرأة .. كان خطو هذه أسرع وأخف وأنشط ..

ووجهت عينى ناحية الباب ، ومر ظل أمام الباب الزجاجى الكثيف .. ظل امرأة طويلة القامة .. هذا هو كل ما استطعت أن أتبيته .. وكان الزجاج الكثيف ، والباب الموارب لا يسمحان لى بأن أرى أكثر من ذلك ..

ومر الظل أمام الباب أكثر من مرة .. كانت ذاهبة إلى المطبخ وعائدة منه ، وكانت تغنى فى رواحها ومجيئها بصوت أخذ بمجامع قلبى وأسر لبى ..

لم اسمع صوتا أحلى من هذا الصوت .. لم تكن تغنى بلغة أعرفها .. ولكن الصوت كان موسيقيا واضح النبرات لين المخارج ، حلو الرنين ..

وتحركت من فوق السرير ومشيت نحو الباب لأفتحه وأرى صاحبة هذا الصوت الجميل .. ولكن يدى وقفت على مقبض الباب لا تحركه .. رأيت أن هذا لا يليق .. وتبدل رأيى وتراجعت ... وملت إلى النافذة ، وأنا أرمى الجو بدخان سيجارتى .. والصوت يهفو إلى حلواً قوياً .. وبعد الصوت عن سمعى ثم أنقطع .. وأنطلقت أتمشى فى أرض الغرفة بخطى رتيبة ، مستعرضا الصور المعلقة على الجدران ..

***

عدت إلى البيت لأنام بعد منتصف الليل بقليل ، فألفيت غرفة صاحبة البيت مضاءة على غير عادة .. وسمعتها تحادث السيدة صاحبة الصوت الجميل الذى سمعته فى أصيل ذلك اليوم .. ووجدت أن يداً جديدة مرت على المنزل كله ، فغيرته ولونته بلون آخر ، وذوق آخر .. فقد رتبت الصور، وغير موقع الأثاث ، وغطى المصباح الذى فى غرفتى بالحرير الأزرق .. وفرش السرير بعناية ، وتغير كل شىء فى الغرفة ..

وشعرت عند دخولى فيها بجو أنيق ممتع .. ونمت نوما عميقا مريحا .. وأستيقظت مبكراً عسى أن أوفق إلى رؤية السيدة الجديدة .. وكنت أسائل نفسى هل هى نزيلة جديدة أم قريبة من قريباتها ..

ومرت أيام دون أن أشاهدها .. وكنت أسمع صوتها ، وحركة أقدامها ، وأرى نافذتها المفتوحة ، وغرفتها المضاءة .. هذا هو كل ما كنت أراه .. ولم أحاول غير ذلك ، وتركت لقاءها للمصادفات ، فإن الأقدار هى التى تربطنا بأناس لم يكن لقاؤهم فى الحسبان ، أو الاتصال بهم يخطر على بال إنسان ..

***

رجعت ظهر يوم إلى المنزل ، وأنا شاعر بألم فى إحدى عينى .. وكان الجو شديد الحرارة كثير الغبار ..

وأغلقت نوافذ الغرفة ، وتمددت على السرير .. وحملت إلى صاحبة البيت قليلا من الماء الساخن .. فغسلت عينى ، وأحسست ببعض الراحة ..

وسمعت المرأتين تتحدثان .. وسمعت خلال الحديث لفظة « أكسيد بوريك » فأدركت أن الحديث يتعلق بى .. وتحدثت المرأة مع البواب .. وسمعت حركة أقدام السيدة الجديدة فى البهو .. ثم مضت مسرعة إلى المطبخ .. ولمحت ثوبها وهى ماضية أمام بابى ..

ولما جاءت صاحبة البيت بمحلول البوريك .. وغسلت عينى أدركت اليد التى صنعته ووددت لو أقبلها .. وأكبرت فى هذه السيدة هذا الخلق النبيل مع إنسان لم تره ولم تعرفه ..

شغلت هذه السيدة بعد ذلك تفكيرى ووقتى وتشوقت إلى رؤيتها للغاية ..

***

وخرجت من غرفتى ذات أصيل ، واجتزت البهو وانحرفت إلى الصالة ، فوجدت صاحبة البيت جالسة على أريكة بالقرب من الباب الخارجى .. وبجوارها سيدة فى مقتبل العمر ، وروعة الحسن .. فأدركت أنها النزيلة الجديدة ..

فلما أحست بى صاحبة البيت قالت :
ـ كيف حال عينك الآن .. ؟
ـ بخير وأشكرك ..

وكانت السيدة الأخرى فى أثناء ذلك الحديث قد أطرقت .. فنظرت إليها بجانب عينى لحظة ثم أضفت :
ـ وكل ذلك بفضلك ...

فأجابتنى صاحبة البيت وهى باسمة مشيرة إلى السيدة التى بجانبها ..
ـ لقد كان هذا رأى مرغريت ..

فتحول نظرى إلى مرغريت ، وهى مطرقة .. وأخذ قلبى يزداد وجيبه ورفعت رأسها .. ورأيت وجهها الصبوح الفاتن لأول مرة ، وتشربت روحى من حسنه .. وتبادلت معها كلمات قليلة ، ووجهها فى خلال ذلك يحمر ، ويرف لونه ، ويزداد سحره ..

وأحنيت رأسى ، وخرجت إلى الطريق ، ومخيلتى تسبح فى بحر من الأحلام اللذيذة ..

***

وقدمت لى ذات صباح قدح القهوة بدل أختها .. فتقبلته شاكراً ممتنا وأخذت أحادثها .. فتوردت وجناتها .. وظهر عليها الحياء الذى بدا منها عندما قابلتها أول مرة .. وعاد إلى عينيها ذلك البريق الفاتن الذى يشاهد فى عينى العذراء قبل أن تنخرط فى البكاء ، أو تنفجر من الضحك ..

***

وخرجنا فى ليلة من الليالى لنتنزه لأول مرة .. وسرنا نحن الثلاثة على شاطئ البحر بعد أن أسدل الليل ستائره ، وأوحش الطريق ، ومضى الناس إلى منازلهم ..

وكنت أبادل مرغريت النظرات والبسمات ، وأشد على يدها خلسة ! .. وكنا نتمهل فى السير عن عمد لتتقدم « المدام ! » وشعرنا بعد مضى دقائق قليلة بأن وجودها يضايقنا ، كان هذا هو إحساسنا المشترك دون أن ننبس بنت شفة ، ولعل المدام قد شعرت بغريزتها بذلك ، فقد أشارت علينا بالعودة قبل أن يهبط البرد ، فأخذنا الطريق إلى المنزل صامتين ..

ولما حييت مرغريت تحية المساء ، وأنصرفت إلى غرفتها وأغلقت عليها بابها ، وقفت برهة أنظر إلى هذا الباب الموصد دونى .. وقلبى يزداد خفقانه ويشتد ..

واحتلت مرغريت بعد هذه الليلة مركز شعورى .. ونفذت صورتها إلى سويداء قلبى ، وكنت أراها فى كل مكان .. أنام وصورتها فى ذهنى وأصحو وصوتها يرن فى أذنى .. لقد استولت على كيانى ، وغدت امرأة أحلامى ..

***
وألفيتها ذات ليلة ساهرة تكوى بعض الملابس .. وكانت هذه هى المرة الأولى التى أشاهد فيها مرغريت وحدها ، فان عين العجوز لا تنام أبدا ! ..

وجلست أحادثها ، وأشترك معها فى عملها .. وهى تضحك وترفع المكواة الحامية فى وجهى لأبتعد وإلا وضعتها على قلبى .. !

ولما فرغت من عملها أشرت عليها بأن نجلس قليلا فى الشرفة حتى نشعر بالنوم .. فنظرت إلى غرفة أختها المظلمة لحظات .. ثم مضت معى ..

وجلسنا نتحدث فى الظلام .. وطوانا الليل فى جلبابه .. واستغرقنا فى الحديث ، وغفلنا عن كل شىء فى الوجود ..

وشعرت لأول مرة بالسعادة الحقة تهز مشاعرى وترقص قلبى .. حتى خيل إلىَّ أن لا أحد سوانا فى المنزل ، وأن أختها رقدت رقدة الأبد ..

وبعد تلك الليلة انمحت الفواصل ، وانزاحت الستر ، وتبددت الظلال التى كانت بينى وبين مرغريت .. وامتزجت روحانا .. وازداد وجدى بها حتى أصبحت لا أقوى على فراقها لحظة ..

فكنا نخرج إلى المدينة فى الصباح ، ونستريح فى البيت وقت الظهيرة .. ونتنزه فى المساء على ساحل البحر بين المندرة وسيدى بشر .. بعيداً عن الناس فإذا حان وقت النوم رجعنا إلى البيت.. وافترقنا أمام المدام .. !

ويظل كل منا ساهرا فى غرفته حتى ينطفىء النور فى غرفتها وينقطع حسها .. وهنا تفتح مرغريت باب غرفتى فى رفق وحذر شديدين .. وتهمس .. ووجهها يشرق فى الظلام :
ـ فتحى .. هل أشعل النور .. أو أهتف بالمدام .. ؟ فتحى هل أنت فى حاجة ..

فأطوقها بذراعى وأغمر فمها بقبلاتى ، ونظل نتناجى ونحلم حتى تبدو خيوط النور فى الأفق ..

***

وكان عندها مجموعة من الصور تمثلها فى مختلف أطوار حياتها .. فقدمتها لى .. وأخذت أقلب المجموعة وهى جالسة بجوارى .. فرأيت صورتها وهى طفلة صغيرة فى بودابست .. وجزيرة مرغريت ..

وسألتها :
ـ هل سميت جزيرة مرغريت بإسمك .. لأنك أجمل فتاة فى المجر ..

فضحكت وقالت :
ـ فى المجر .. فقط .. ! ؟
ـ فى العالم يا مرغريت ..

فقبلتنى فى فمى وهى طروب .. ومضيت أقلب الصور حتى استوقفتنى صورة فتاة شديدة الشبه بها ..

فسألت مرغريت عنها .. فنظرت إلىَّ ثم أطرقت وراعنى أن وجهها قد اكتأب وعلاه الوجوم .. وتحير فى عينيها الدمع .. فطويت الصور .. ورفعت وجهها إلى وجهى ..

فارتمت على صدرى وهى تنتحب .. فأخذت أمر بيدى على شعرها وأغمرها بقبلاتى .. حتى هدأت .. ثم رفعت وجهها إلى وقالت :
ـ أعرفت صاحبة الصورة .. ؟
ـ أجل يا مرغريت .. وآسف لحماقتى ..
ـ لا تقل هذا ولماذا أكتم عنك .. لقد أصبحت عندى أكثر من أخ .. أنها أختى .. لـ .. وقد انتحـ ..... أنتحرت .. كانت صغيرة .. وغريرة...... وعشـ ..... عشقت زوج أختها .. زوج المدام ..

ووضعت يدى على فم مرغريت .. بعد أن رأيت جسمها عاد يهتز ويرتجف .. ولم أكن أود أن أسمع شيئا عن هذه المأساة .. وأدركت كل شىء يتصل بهذه المرأة الغريبة ، وعرفت علة نفورها من الرجال وعزلتها المطلقة عن الناس .. أدركت كل هذا بسرعة وأخذت أحادث مرغريت فيما يصرفها عن هذه الذكرى حتى هدأت ، فخرجنا لنتنزه ..

***

ومرت الأيام سراعا ونحن فى سعادة لا تقدر .. وكنا نمضى معظم الليل فى الغرفة نتسامر ولا نحس بأن فى العالم سوانا .. وانمحى كل شىء .. فينا ونسينا مدام « ت » التى أدركت كل شىء وعرفت كل أمر وصمتت ..

كانت تعرف أن الكلام لا يجدى .. وأننا مستغرقين فى حلم لا نصحو منه أبدا .. وكانت مرغريت تدرك أيضا حال أختها .. فيعتريها سكون ووجوم ، وتطوقنى بذراعيها وهى ترتجف وتبكى ..

وشعرنا مع الأيام بنظرات المرأة تشتد وتحتد وجو البيت قد تكهرب ، وأصبح خانقا .. فكنا نمضى الساعات فى صمت ..

وقررنا ذات ليلة العودة إلى القاهرة .. لنقضى معا ما بقى لنا من عمر .. وشعرت بعد هذا القرار بالهدوء المقرون بالسعادة الحقة ..

وأخذت أرتب الحقائب ، وأعد كل شىء للرحيل .. وذهبت إلى المدينة وتركت مرغريت تهىء نفسها للسفر ..

وعدت إلى المنزل فى ساعة متأخرة من الليل وأنا سعيد حالم .. وحاولت النوم فلم أستطع فقد طيرت السعادة النوم من عينى .. فرأيت أن اذهب إلى غرفة مرغريت .. وأوقظها لنقضى ما بقى من الليل معا ..

ونهضت من الفراش .. وفتحت باب غرفتى وتقدمت ، على أطراف أصابعى فى الردهة .. حتى قربت من باب غرفتها ، وهنا وصل إلى سمعى صوت بكاء مختنق .. وصوت مرغريت وهى تتحدث بصوت خافت ، فأدركت أن أختها معها فى الغرفة .. وساورنى القلق وأنصت .. فإذا بالحديث يخصنى فوقفت فى وسط البهو ذاهلا شاردا .. وأنا لا أسمع إلا بكاء المرأة المختنق وصوت مرغريت وهى تهدئها بصوت خافت ثم سمعتها تبكى معها .. فأحسست بقلبى يتفطر لوعة وأسى ..

وسمعت المرأة تقول لأختها وهى تنشج ..
ـ لا تتركينى وحدى .. بعد كل الذى حدث .. لقد وجدتك أخيرا .. وأصبحت وما لى فى الوجود سواك .. فلا تتركينى وتذهبى معه ..

وارتفع النحيب .. وتكرر الرجاء .. وأنقطع الصوت .. وخيم صمت القبور ..

وتحاملت على نفسى حتى بلغت غرفتى .. وتمددت على السرير وجسمى يحترق ورأسى يشتغل والعرق يتصبب على جبينى .. وعيناى فى وقدة الجمر .. وأطرافى تتقلص .. والسيجارة تنتفض بين أناملى .. والأفكار تموج فى رأسى وتتصارع ..

لقد من اللّه على بالسعادة بعد شقاء طويل فهل أرفضها فى سبيل امرأة فى عداد الموتى .. حية كميتة لا فائدة من وجودها ، ولا خير يرجى منها ، لقد انقطعت صلتها بالحياة وصلتها بالناس ، وتقطعت بها الأسباب ..

فما ذنب هذه المسكينة وهى فى نضرة عمرها .. ورونق صباها حتى تشقى مع هذه المرأة الشقية إلى الأبد .. هل إذا انتزعتها منها سأنتزع نفسها .. هل أذهب بحياتها .. ولماذا لا أذهب بحياة من لا يصلح للحياة ولا تصلح له .. وقفت عند هذا الخاطر العاصف أترنح .. وهل يمكن أن نظل سعيدين بعد هذه المرأة .. أنها ثالث لا ينفصل عنا ولا يتجزأ .. إنها فى حياتها ومماتها .. شئنا ذلك أو لم نشأ ..

وانطلقت أتمشى فى أرض الغرفة بخطى سريعة كالنمر المحبوس فى عرينه .. والأفكار تشتعل فى جمجمتى وتعصف ، حتى شعرت بمثل الحمى تسرى فى عروقى وبحلقى يجف .. فاتجهت من غير وعى إلى المطبخ لأشرب..

ووقع بصرى وأنا أدير صنبور الثلاجة على بلطة معلقة فى الحائط .. رباه .. هلى أمسك ببلطة رازكو لنيكوف(*) وأحطم هذه الجمجمة .. وأمسكت بالبلطة .. ! فأحسست بثقلها وأخذت يدى ترتعش ، وجسمى يهتز والعرق يتفصد .. رحماك يا سيد الكتاب ليس بين أعقل الناس وبين الجريمة غير قيد شعرة .. !

هل أقتل هذه المرأة ، وأقتل مرغريت ، وأقتل نفسى .. وتفتحت عيناى فى رعب وجزع .. واشتد الظلام ولم أعد أرى شيئا ..

ووجدت نفسى ممددا على فراشى والعرق يتصبب .. فاستويت على قدمى ، تحت ثورة الحمى ، وأمسكت بحقيبتى .. وخرجت أضرب فى ظلام الليل على غير هدى ولا سبيل ..
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) بطل الجريمة والعقاب لدستوفسكى .

===============================
نشرت القصة فى مجموعة " فندق الدانوب " لمحمود البدوى سنة 1941 " وأعيد نشرها بمجموعة " قصص من الإسكندية " من تقديم واعداد على عبد اللطيف و ليلى محمود البدوى ـ الناشر مكتبة مصر 2002
================================

الشعلة ـ قصة قصيرة



الشـــــــعلة
قصة محمود البدوى



تقع حانة منيرفا فى الشارع الرئيسى فى حى الملاهى والحانات .. ولكنها لم تكن من طرازها .. كانت مستطيلة وهادئة ، ولها ساحة رحبة ، وشرفة تطل على الطريق .

وكان أكثر المترددين عليها من الأشخاص الذين يتناولون وجبات الطعام فى الخارج .. فقد كانت مشهورة بالكفتة الرومانى والمكرونة الإيطالى ، وأصناف المشويات الشهية .. وكان صاحبها يديرها برأس الفنان وعقله .

وكنت أذهب إليها كل مساء لأتعشى وأشرب القهوة الجيدة وأكتب تحت ضوء مصباحها وأقرأ .. وأشاهد الحياة تجرى أمامى من شرفتها الواسعة ..

وكنت مذ قدمت من الريف أحس بالفراغ وأشعر بالنقص .. لأنى أصبحت بصورة لاتقبل الشك أعيش على هامش الحياة .. وأكتفى بالعمل الروتينى الممل فى الصباح .. دون أن أحرك مشاعرى أو أن أتقدم خطوة ..

وبعد الحياة الأصيلة وسط الفلاحين فى عزبهم وكفورهم .. وبعد مشاركتهم فى الطعام والشراب .. والعمل الشاق فى الأرض .. وبعد مخالطة الأخيار والأشرار منهم والغوص فى الأعماق .. جئت إلى هنا لأنظر إلى الحياة فى المدينة من وراء زجاج ..

أصبحت لا أرضى عن هذه الحياة ..

وكنت بحكم طباعى الريفية المتأصلة أنفر من أهل المدن ولا أستطيب صحبتهم .. ثم أخذت أحاول أن أرفع هذا الحاجز .. بالتدريج ..

وكما يحدث لكل إنسان يتردد على مكان معين .. فإنى قد وجدت نفسى بعد أسبوع أعرف كل الوجوه التى تتردد على المشرب .

كنت أجد على " البار " رجلا ضخما عظيم الكرش .. كان السيد " عبد الغفار " يدخل فى الساعة العاشرة تماما .. ويجلس إلى الرخامة العالية .. وأمامه كؤوس الشراب .. ولم يكن يأكل أبدا .. كان يشرب فقط .. ويشرب بشراهة .. يشرب إلى درجة تفوق كل مدارك الاحصاء .. خيل إلىّ أنه يشرب فى الليلة الواحدة .. " دنا " ممتلىء الحافة .. ولم يكن معه رفاق .. كان يأتى ليسكر وحده ..

وقبل منتصف الليل بقليل كان يحصى الموجودين بعينيه ويطلب لهم الشراب .. ولما يجدنى لا أشرب يقول للساقى :
ـ حسن لماذا نسيت السيد ..؟
وتلفت إليه أقول شاكرا :
ـ أرجو اعفائى .. اننى لا أشرب ..

ويحدق فى وجهى بقوة :
ـ ولماذا تجلس هنا .. اذن ..؟
ـ لأن المكان جميل .. ويريح أعصابى ..
ـ انك كالذى يصلى طول النهار .. ويذهب فى الليل إلى وجه البركة .. !

وأعجبت النكتة بعض الحاضرين فضحكوا وضحكت معهم ..
وقال باصرار :
ـ لابد أن تشرب شيئا .. ولو زجاجة صودا ..

وتحت الحاحه الشديد طلبت من حسن " شوبا " من البيرة .. وأبقيته أمامى ممتلئا إلى النصف .. حتى يعفينى من غيره ..

وبعد نصف الليل يطلب عبد الغفار من حسن أن يحضر له عربة يركبها وهو لايكاد يتماسك .. ويضع فى يد حسن كل ما بقى معه من فكة ..

وبعد ربع ساعة من خروجه أحمل كتبى .. ويأخذ حسن فى اغلاق الأبواب .. وكنت أتخذ طريقى إلى بيتى فى الحلمية الجديدة ماشيا على الأقدام .. وكانت تلك الجولة الليلية تطيب لى لأنها رياضة عضلية للجسم المحبوس بين أربعة جدران .. ولأنى كنت أستطيع أن أتبين جمال القاهرة بعد أن تنقطع الرجل .. تبدو العمارات والشوارع تحت الأضواء الساكنة أمتع ما تقع عليه العين .

وحدث وأنا أمضى متمهلا وكنت قد تخطيت ميدان الأزهار .. وانحرفت فى شارع الفلكى .. أن رأيت رجلا يمشى أمامى فى تثاقل .. وكان شكله مألوفا لدى .. ولما اقتربت منه وجدته " عبد الغفار " .

وكان قد استفاق من نصف سكره .. وقال لى أنه يسكن فى عمارة للأوقاف فى هذه المنطقة وأنه خلفها وراءه .. لأنه لم يشعر بالنوم .. بعد أن نزل من العربة .. طارت الخمر من رأسه .. فرأى أن يتجول لأنه يكره البيوت .. وشعرت بثقل الوحدة على نفسه المسكينة ..

وقال لى أنه مقطوع من شجرة ، وأنه بعد سنوات من الكفاح فى سبيل العيش وجد نفسه يعيش بغير أمل أو غاية مرجوة .. وقد جره اليأس إلى السكر .. وهو الآن يشرب ليموت .. لأنه لم يعد يستعذب الحياة .

ولم أشأ أن أسأله لماذا لم يتزوج ولماذا يعيش فى جفاف عيشة مظلمة .

لأن حياتى كانت جافة ومظلمة مثله ، ولأنى كنت لا أحب أن أسمع المواعظ ولا أحب أن ألقيها على الناس .. وتركت الرجل قبل أن أبلغ محطة حلوان .

***
وفى خلال هذا الركود والملل والفراغ الذى كنا نحس به ونعيش فيه .. اشتعلت نيران الحرب فجأة .. وتطورت الأحوال بسرعة عجيبة وأخذ " روميل " يزحف فى الصحراء متجها إلى الإسكندرية .. وامتلأت مدينة القاهرة بجيوش الإنجليز وحلفائهم وأخذوا يعربدون ويسكرون فى حاناتها ..

ولكن الخواجه " إيناس " منعهم من دخول " منيرفا " .. كان يود أن يحتفظ بعملائه القلائل .. وبهدوء ونظافة المحل .

وجعلنى هذا أكثر حبا للمكان فلم أنقطع عنه أبدا ..

وفى الوقت الذى كان فيه جنود الحلفاء السكارى .. يحطمون الحانات والملاهى .. ويشتبكون فى عراك دموى مع السكان الآمنين فى قلب العاصمة .. كنا نحن الجالسين فى " منيرفا " نشعر بالهدوء المطلق .. وكانت كل القرائن تدل على أن هذه المجزرة البشرية ستنتهى بسحق الإنجليز واندحارهم .. كانوا يولون الدبر .. فى كل ميدان .

ولهذا تحمل الناس الظلام والغارات .. والجوع .. لأن الفرحة الكبرى لتحرير الوطن والتخلص من شرهم .. أتية لا ريب فيها ..

***

ولم تكن حانة " منيرفا " بالمكان الذى يجلس فيه النساء . ولكن يحدث فى بعض الحالات أن تأتى سيدة مع رفقة لها .. أو تجلس وحيدة لتتعشى أو تشم النسيم .

وكنا نحس بوجودنا .. ونشعر بالحيوية كلما دخلت فتاة .. وكان صحن الحانة متسعا وعلى الجانب الأيمن منصة .. كأنها خشبة مسرح قديم .. كانت ترتفع عن أرض الحانة بثلاث درجات ..

وفى هذا المكان المرتفع كنت أجلس .. وأشعر بالراحة .

***

وسمعت ضحكات " عبد الغفار " ذات ليلة وهو يتجه إلى الباب ، وكان خارجا قبل ميعاده ..
وقال لحسن :
ـ بلاش عربية الليلة عاوز أتمشى .
ـ وكانت الليلة شديدة الحرارة ، والساعة لاتعدو العاشرة ، فرأيت أن أذهب إلى سينما صيفية فى شارع عماد الدين .

وخرجت بعد الساعة الواحدة صباحا .. وسرت فى شارع محمد فريد .. وقبل أن أعبر شارع الساحة .. رأيت نفرا من الناس متجمعين على عتبة بيت فى الشارع .. ويتحدثون بصوت عال ، فنظرت فرأيتهم يحيطون برجل جالس على العتبة ، وهو فى حالة اعياء تام ..

وعرفت الرجل فقد كان " عبد الغفار " ..
وقبل أن أقترب منه .. سمعت من يقول :
ـ الأفندى مات ..
فارتعشت ..
ـ مات من السكر ..
ـ وفين العسكرى ..
ـ جاى ..
ـ طيب يا ناس غطوه بحاجة ..
ـ حرام ..

وقلت للناس انى أعرف الرجل وأعرف بيته .. وبحثنا عن تاكسى . ومر تاكسى نزل منه حسن ، وكان بعض الناس قد أخبره بما حدث ، فجاء على عجل .

وحمل الرجل وذهب به سريعا ..

وعلمت فى مساء اليوم التالى أنه تكفل بمصاريف الدفن .. ولما أخرجت له مبلغا من جيبى لأعاونه فى هذه المصاريف ..

قال لى وهو يبتسم :
ـ مش ممكن .. أنت فاكر .. أنا دفعت له حاجة من جيبى دى فلوسه ..
وهكذا بدا مثالا نادرا فى الوفاء ..
وحزنا على موت الرجل .. فقد كان يشيع البهجة فى المكان ..

***

وفى الساعة التاسعة من مساء اليوم التالى .. دخلت سيدة شابة الحانة .. وجلست إلى مائدة صغيرة .. وكانت جميلة وحسنها يهز المشاعر .. وشعرت بالأسى لأنها اختارت هذا المكان لتجلس فيه وهو ليس أكثر من " بار " .
وشعرت بالألم لأن شكلها لا يدل على انها تتردد على هذه الأمكنـة العـامة .

وطلبت طبقا من المكرونة وأخذت تأكل ..

وبعد أن أكلت وضعت الشوكة والسكينة فى الصحن .. ونظرت إلىّ قليلا فتـأكـدت من هذه النظرة انها مصرية.

وكانت جميلة .. وجمالها يصرخ .. فتألمت لأنى رأيت هذا الجمال يخرج فى الليل وحده وسط الحرب والظلام ..

ولكنى اسـترحت لأن المـكان لايدخـله عساكر من الإنجليز ..

ولما أعطتنى وجهها .. عدت إلى الكتاب .. وفجـأة برق أمـام نظرى شىء من الذهب .. وسمعت صوتا خشنا يقول بالإنجليزية :
ـ تشترى هذه .. ؟

ورفعت وجهى عن اليد التى كانت ممسكة بالساعة إلى صاحبها .. فرأيت عملاقا ضخما من عساكر الإنجليز ، ولا أدرى كيف دخل من الباب ، ينحنى علىّ وهو مخمور وحسبنى لم أسمعه فى المرة الأولى فعاد يقول :
ـ تشترى هذه .. ؟
ـ نو..

قلتها سريعا ودون تفكير فى العواقب .. درت برأسى فى المكان فوجدت جسمه الضخم قد سد علىّ جميع المنافذ .. ووجدت جميع من فى الحانة ينظرون إلينا وكأن على رؤوسهم الطير ..

وكان هو أقرب شىء إلى الممر .. فلم يستطع إنسان أن يتحرك من مكانه .. ونظرت فوجدت بجانبه طبنجة موضوعة فى جراب .. وخنجرا كبيرا مما تراه مع البوليس الحربى ..

ولمحت وهو يعيد الساعة إلى جيبه .. ثلاثة أشرطة على ساعده .. وشيئا فى حجـم القرش كالشـارة . . وقال وهو ينحنى بكليته على المنضدة :
ـ اعطنى .. شلنا ..
ـ ليس معى نقود ..

قلتها بنفس اللهجة السابقة ونفس التوكيد .. وأحسست بعدها بهزة .. ولم تكن منه فهو لم يتحرك من مكانه .. وإنما كانت منى .. ارتجفت .. خرجت منى الكلمة كالقذيفة .. وندمت عليها .. وأسفت على حمـاقتى .. فقد كنت أستطيع أن أصرفه وأخلص حياتى بقروش قليلة وأخلص من كل المتاعب ..

ولكن الإنسـان يرث بعض الطباع فى مثل هذه المواقف ويتصرف وهو واقع تحت تاثيرها .. فأنا لم أقبل التحدى .. ولا الاستكانة .. رفضتهما وإن كنت أعرف اننى سأموت حتما ..

وفكرت وأنا أرفع رأسى فى الشىء الذى سيضربنى به هذا الوحش .. ثم رأيت أنه لن يستعمل شيئا أكثر من أن يرفعنى بين يديه ويلقينى على الأرض .. فأنا لا أتحمل أكثر من هذه الضربة ..

وقـدرت قوته .. وكان يستطيع بسهولة أن يصرع ثورا .. وأن يطوق بذراعيه جميع الموجودين فى المشرب حتى يكتم انفاسهم .. وتحرك إلى الخلف قليلا .. ثم تقدم وكانت عيناه فى لون الدم ..

وفى تلك اللحظـة لا أدرى لم نظرت إلى الفتـاة التى كانت تأكل فرأيتها تشعل سيجارة .. وتنظر إلينا فى ابتسام .

وفى غفلة من الرجل وهو منشغل بى .. تسلل معظم الذين كانوا فى داخل البار .. وبقيت وحـدى أواجـه العاصفة .. وعندما يدرك الإنسان اليأس ويعرف أنه ميت يتصلب جسمه ويفقد الإحساس بما حوله .

وهذا ما حدث لى .. وأنا أراه يضع يده على الخنجر .. وانتظرت الضربة .. فاغلقت عينى .. ولما فتحتهما وجدت وجها أعرفه يقف بين رأسينا ..

وقالت الفتاة .. وهى تربت على ذراعيه .. وتنظر إليه فى رقة :
ـ تعال .. يا جونى .. سأعطيك كل شىء ..
وكأنما صبت عليه ماء باردا .. فتركنى وتحول إليها ..

ووقفت معه على المنصة تضاحكه .. ثم مشت به إلى حافة الدرج .. ودفعته وهو ينـزل الدرجات بكل قوتها فانزلق وهوى بكل جسمه على البلاط .

وفى تلك اللحظه رأيت فى يد حسن قطعة من الحديد ، ضرب بها "كوبس " النور .. فغرقنا فى الظلام .

***

وفى اليوم التالى وجدت حانة منيرفا .. مغلقه .. والدكاكين التى بجوارها محطمة ولم أسمع لمن كان فيها خـبرا .

وحزنت على حسن .. وعلى الفتاة فقد كانت الشعلة التى أضاءت ظلمـات حياتى .. وظلت الجذوة المشتعلة فى قلبى .. لم تنطفىء نارها ابدا .. وكنت أراها بوجهها الجميل وهى جالسة هنـاك فى وداعة .. ومن عينيها يطل الحنان والابتسام ..

***

ومرت سنوات .. والجذوة لم تتحول إلى رماد ..
وذات ليلة كنت أزور صديقا لى فى شبرا .. لأول مرة .. ولم أعرف موقع الشارع فوقفت حائرا قبل الدوران .. ثم رأيت نورا فى دكان سجاير صغير فتقدمت إليه .. ولما اقتربت من الدكان .. رأيت رجلا داخله .. وخيل إلىّ أنى أعرفه .. ولما دققت فيه النظر .. صدقت فراسـتى وتأكـدت أنه حسن "سـاقى" منـيرفا وسألته عن شـارع الشبراوى ..
فنظر إلىّ ولم يعرفنى .. ثم خرج من الدكان إلى الرصيف فرأيته يمشى على عكاز .

ونقر على نافذة أرضية .. ثم سأل :
ـ امينة .. فيه شارع هنا اسمه الشبراوى .. ؟
وفتحت النافذة وأطل وجه ..
ـ ايوه .. تانى شارع بعد دكان عبداللطيف .. على طول .

ومدت صاحبة الصوت رأسها .. فرأتنى .

وعرفت أمينة فى الحال .. فإن شيئا لم يتغـير من وجهها .. احتفظ وجهها بجماله الآسر وكل ما فيه من فتنة .. وظل صوتها كما سمعته فى تلك الليلة .

ونظرت إلى طويلا ولما عرفتـنى .. ابتسمت ثم غابت الابتسـامة .. طواها أسى أخرس .

فقد رأت الأهوال فى رأسى مشتعلة .. وارتجفت كما ترتجف أنثى .. وهى ترى الشباب يذهب من وجه الرجل .. الذى تعرضت للموت من أجله ، وما هو أشنع من الموت ..

وبقيت أمامها لحظات صامتا أخرس .. ورأيت الدموع تتحرك فى عينيها .. ثم سمعت بكاء طفل فى الداخل .. فتركت النافذة ودخلت .

وكنت وأنا اخطو فى الشارع الطويل الخافت الضوء أود أن أسأل الرجل .. هل فقد ساقه فى تلك الليلة المشئومة .. أم بسبب الغارات .. واسأله عن أمينة وأعرفه بنفسى . ولكنى وجدت السؤال يشوه جمال المسألة ..

وكنت قبل كل شىء أود أن تظل الشعلة التى اشعلتها هذه المرأة كما هى .. مشتعلة ..
=================================
نشرت بمجلة الرسالة الجديدة 1/9/1957 وأعيد نشرها بمجموعة محمود البدوى " الأعرج فى الميناء" 1958
=================================

الفرقة الأجنبية ـ قصة قصيرة



الفرقة الأجنبية
قصة محمود البدوى





قبل سنوات كان الفلاحون فى الريف يحسون بالفراغ .. ولم تكن فى معظم عواصم المديريات دار واحدة للسينما .. ولاشىء للتسلية واللهو .. وكانت كل هذه الأشياء مركزة ومجمعة فى القاهرة .. فإذا حدث ورحلت فرقة تمثيلية صغيرة .. من قلب العاصمة وحطت رحالها فى مدينة .. المنيا .. أو سوهاج .. استقبلها الناس بحرارة لاحد لها .. حتى وإن كانت من أحط الفرق الجوالة على الاطلاق ..
وكان الخواجه " اسناسيو " يملك فندقا كبيرا فى مدينة أسيوط مجاورا للمحطة .. وفى هذه المنطقة تتجمع كل الفنادق والمقاهى التى فى المدينة .. ويشتد بينها الصراع ..
وكان الخواجه " اسناسيو " يعمل بعقل ذكى على راحة النزلاء ويجدد فى الفندق ويبتكر وسائل للتسلية ، فكان فندقه من أشهر وأحسن الفنادق فى المدينة ..
ويستيقظ نزلاء الفندق ذات صباح على صوت أنثى .. تتكلم باللهجة " المصرية " الناعمة وتضحك وفى يدها السيجارة .. ويرون القميص الذى يضم صدرها ينشق عن مثل المرمر .. والساق منثنية إلى جانب وعارية .. فيعرفون فى الحال أن فرقة أجنبية جاءت من القاهرة فى قطار الليل ..
وتكون الفرقة فى الغالب مغمورة وقضت فى العاصمة .. ستة أشهر على الأقل فى تعطل مر .. وليس من بين أفرادها اسم واحد رددته الصحف .. ومع هذا كله .. فبعد ساعة من وصولها يتدفق الناس على الفندق كالسيل ..
***
وفى الليل يبدأ عمـل الفرقة .. ويظل الرقص والموسيقى إلى الصباح .. وتأتى وفود العمد والأعيان من ملوى وديروط وكل المراكز البعيدة والقريبة .. ويصبح من المألوف جدا أن تقف عربة كبيرة على باب الفندق .. وترى على رفوفها غبار السفر .. وينزل منها أحد كبار الأعيان .. ويكون ضخما فى الغالب ويرتدى الكاكولة السمراء والقطنية البيضاء ذات الخطوط السوداء الرفيعة .. ويندفع توا إلى الداخل .. وهو يحيى الموجودين .. ثم ينزل بعده ستة من التوابع ، أربعة منهم مسلحون على الأقل .. ويجلس اثنان بالبنادق على الباب .. ويدخل الباقون ..
وتركز عيون الرجال جميعا .. على شىء واحد .. فى الفرقة .. شىء عجيب فى نظرهم .. راقصة .. تركية .. أو شركسية .. أو مصرية أو " منصورية " .. راقصة واحدة تنسيهم رائحة الدريس .. وعليـها يدور الصراع .. وتدور الكئوس .. وتفرغ زجاجات الشمبانيا .. وتحرق أوراق البنكنوت من كل الأحجام .. لإشعال سيجارة لها .. وتكون هى فى الغالب لاتدخن على الاطلاق ..
كانوا يبيعون القطن وينثرون ذهبه تحت أقدام الغوانى والراقصات ومن ورائهم يزحف بنك الأراضى والبنك العقارى ناشبا مخالبه ..
***
وفى خلال السنوات الأربع التى قضيتها فى فندق " ديانا " لم أشعر بأى ملل على الاطلاق ..
وكنت أول من ينهض من الفراش فى الصباح .. وأنزل إلى حديقة الفندق الصغيرة لأنظر وأشرب القهوة وأطالع الصحف التى وردت فى قطار الليل .. قبل أن أذهب إلى عملى فى تفتيش الرى ..
وذات صباح رأيت شابا نحيفا فى الثالثة والعشرين من عمره قد سبقنى إلى الحديقة .. وجلس يشرب الشاى ، وكانت تبدو عليه الوداعة ، ثم أقبلت فتاة من داخل الفندق وجلست بجانبه .. وأخذت تحادثه بصوت خافت .. ولاحظت أنها شديدة الخجل فبمجرد أن لمحتنى جالسا عن قرب تضرجت وجنتاها .. وكانت بيضاء طويلة وجسمها تبرز تقاطيعه فى تناسق مع الفستان الذى تلبسه .. ولمح الشاب " جارسون " اللوكاندة واقفا هناك على باب الحديقة ، فصاح فيه :
ـ من فضلك .. صحى الجماعة اللى فوق .. جعنا ..
ـ حاضر ..
وبعد نصف ساعة كانت الفرقة كلها تتناول الافطار بجوارى .. وكانوا يتحدثون عن رحلتهم .. فى بنى سويف والمنيا .. ويكثرون من الضحك ويتندرون على الفلاحين البسطاء ..
ولاحظت من وجوههم وهندامهم ، أنهم من فرق الدرجة الثالثة ولكنهم كانوا يضمون إلى مجموعتهم فتاتين من أجمل من رأيت من النساء .. وكان لإحداهن جسم شفاف كالبللور .. ينثنى ويلف كالخيرزان ..
***
وفى الساعة الحادية عشرة صباحا ، رأى الناس الموسيقى فى المدينة لأول مرة تعلن قدوم الفرقة .. وكان على رأسها " بلياتشو يلبس طرطورا " .. ويرقص ـ وهو سائر ـ حاجبيه .. ويكتفى بهذه الحركة عن عمل أى شىء آخر ..
وفى الليل بدأ الغناء ودار الرقص .. ومثلت رواية مضحكة اشترك فيها الجمهور .. وسمعت وأنا جالس فى بهو الفندق الغناء .. ورنين الصاجات .. ونقر الدف .. ولكننى لم أشاهد التمثيلية ، وحوالى الساعة الثانية صباحا انفض السامر .. والتف الأثرياء حول موائد الشراب .. ورأيت جماعة منهم هناك فى زاوية من القاعة .. ومعهم الفتاة التى كانت ترقص فى السامر .. وهى الفتاة التى شاهدتها فى الصباح مع الشاب فى الحديقة .. جلست فى أول الأمر منكمشة خجلى لاتفهم بعض كلماتهم الصعيدية ثم شربت معهم وأكلت وأخذت تضحك ، وجلسوا حولها حلقة يشعلون لها السجائر بأوراق البنكنوت .. وابتدءوا بالجنيه .. والعشرة .. وهم يضحكون .. ولكن اسماعيل " بك " كتم أنفاس الحاضرين فجأة فقد أخرج بهدوء من جيبه ورقة بمائة جنيه .. وأشعل بها السيجارة للفتاة ..
ورأيت دخان الورقة الأزرق .. يصعد إلى خياشيم الفتاة .. ثم رأيت الرماد يسقط على الأرض ..
وفى غمرة الانتصار ونشوته .. وقفت الفتاة منتصبة .. ورأيت عواطفها كلها تذوب .. كأنها تود أن تحتضن الرجل وتقبل وجناته ..
ثم غالبت نفسها وعادت إلى كرسيها وفمها يتموج راقصا بالضحك ..
***
ولما صعدت لأنام سمعت صوت اسماعيل " بك " ورائى .. فقد كان يقيم فى الطابق نفسه .. وفى غرفة مجاورة لغرفتى ..
ولما أدرت الأكرة وحركت الباب .. رأيت على الضوء الخافت ، ضوء سيجارة هناك فى الممر .. فتوقفت ومددت بصرى ، فرأيت الشاب الذى كان فى الصباح يشرب الشاى فى الحديقة .. جالسا هناك فى العتمة .. فى نهاية الممشى كأنه فى انتظار رفيقته ..
وفى عصر اليوم التالى شاهدت من نافذة غرفتى .. الموسيقى عائدة من جولتها فى المدينة .. وكف العزف .. ودخل البلياتشو من باب الفندق وهو ينزع القناع .. ورأيت وجه الشاب رفيق الفتاة الراقصة ..
وقبل الغروب نزل إلى الحديقة .. وكان قد اغتسل ولبس البدلة التى شاهدته فيها فى اليوم الأول .. وحيانى وجلس جانبا يطالع بعض الصحف ..
وسمعت الفتاة الراقصة تناديه من فوق .. وكان مستغرقا فى المطالعة فنبهته .. فرفع وجهه إليها ..
ـ رءوف .. اطلع ..
فهز رأسه .. وعادت تلح وتناديه ..
فطوى صحيفته .. وصعد إليها ..
وعاد بعد فترة وجيزة منفعلا وعلى وجهه الغضب وجلس ساهما على المقعد نفسه .. ونزلت الفتاة بعد قليل .. وكانت متأنقة .. ومتعطرة .. وترتدى رداء محتشما سابغا .. كأنها عذراء من الريف .. وأخذت تحادثه بصوت خافت .. وكأنها تناجيه .. حتى رأيت وجهه يعود إلى هدوئه .. وانفتأ الغضب ..
ثم نهضا .. واتخذا طريق النيل ..
***
وبعد آذان العشاء .. خرجت لأجول فى المدينة .. ولما رجعت إلى الفندق فى الساعة العاشرة مساء .. كان الرقص دائرا فى القاعة الداخلية .. وكان رءوف جالسا وحده .. تحت مدار السلم وقد مال رأسه على صدره .. وتنبه على وقع أقدامى .. فرفع رأسه .. وحدق في مليا ثم سدر ..
وجلست قريبا منه أتعشى وأنا أسمع صوت الأنغام .. ولما دعوته للطعام اعتذر وقال لى :
ـ اعتدت أن أتعشى مع مديحة بعد أن تنتهى من رقصتها وستأتى حالا ..
ولكنها لم تأت ..
وانقضت ساعتان هكذا وهى تضحك مع الرجال فى الداخل .. وهو يسمع ضحكها من مجلسه ويتلون وجهه بكل الألوان .. وقد عجبت من تصرفه وشذوذه ، يصاحب راقصة ثم يغار عليها .. وسمع ضحكة حادة منها فابيض وجهه .. وكان أمامه كوب من الماء .. فرفعه إلى فمه .. ويده ترتعش .. ولا تقوى على حمل الكوب .. ولاحظت .. أن حاجبيه يرقص رقصة واحدة شديدة فى كل خمس .. أو ست ثوان ..
وظل يدخن وينفض الرماد ثم نهض وصعد إلى فراشه ..
وسمعت صياحا .. عاليا .. يأتى من الداخل .. وأزحت الستارة ووقفت أشاهد مديحة وهى ترقص بالصاجات وينثنى جسمها كالثعبان وكانت وسط نفر قليل من الرجال لايزيد على خمسه .. ولم يكن من بينهم اسماعيل بك ..
وكان الدخان يملأ جو المكان .. ومديحة ترقص على نقر خفيف .. للدف .. ولايوجد عود ولاناى .. ودار جسمها دورات ثم أسبلت عينيها وهى تتأوه .. حتى اقتربت من " كنبة " .. فجلست تستريح وحبات العرق تتساقط كاللؤلؤ من جسمها العارى ..
ثم انتصبت وأمسكت بثوبها وهى تقول :
ـ كفاية .. بأه .. أحسن مسافرين بكره .. بدرى ..
وصعدت السلالم وحدها ..
ولما ذهبت لأنام بعد ذلك بنصف ساعة .. وجدت نور الغرفة التى اعتـادت أن تنام فيها مع الشاب مطفأ ولم أسمع صوتا هناك ..! وغفوت .. ثم تنبهت على صوت اسماعيل بك فى الغرفة المجاورة .. ولما رفعت رأسى عن الفراش وجدت فى غرفته ضوءا خفيفا .. وكان الصوت الذى سمعته قد انقطع ولكنه عاد أشبه بالهمس .. فتحركت من فراشى .. وفتحت الباب .. فوجدت بابه مواربا واستطعت أن أرى مديحة وهى ترقص عارية فى زاوية من الغرفة دون صوت وكأنها نائمة واسماعيل بك يتربع أمامها وفى يده الكأس وعيناه نصف مغمضتين والدخان يملأ جو الغرفة ..
وخشيت أن ترانى .. فعدت إلى غرفتى .. وتمددت على السرير ..
***
وفجأة دوت طلقات مزقت السـكون .. وجريت على صوت النار ، فوجدت مديحة ساقطة فى مكانها .. واسماعيل بك .. قد تدحرج بجوارها على الأرض ..
وكان رءوف على الباب .. وفى يده المسدس ..
ولما تناولته منه .. سلمه دون مقاومة ..
ـ لن يقتلونى هنا ويمزقونى .. بالسكاكين ..
ـ لا .. لن يمسك بك أحد حتى يأتى البوليس ..
وأغلقت الباب من الداخل ..
وأمسك بى وأخذ يهذى :
ـ حضرتك محام .. اعمل معروف .. خلصنى .. أنا مريض .. أنها زوجتى .. ولقد تزوجتها وهى راقصة لتكون لى وحدى .. ولم تكن هكذا كانت أشبه بالعذراء .. وقد عملت بلياتشو فى الفرقة .. لأكون معها فى الليل والنهار .. أنا مريض .. مريض بالأعصاب .. ولا أستطيع أن أقوم بأى عمل .. عندما كنت فى بطن أمى .. أتهم والدى فى جريمة قتل وسجن وكان الناس جميعا يعرفون أنه برىء .. ولكنه بقى فى السجن ثلاث سنوات ، ولما صدر الحكم أخيرا بالبراءة .. كان قد ضاع ، وتمزقت أعصاب أمى ، وقد ورثت منها هذه الأعصاب ، أنا غير مسئول ، أنا مريض .. ولن تتركنى .. وحدى .. أنت شاهد .. وأنا مريض .. مسكين ..
وأطرقت برأسى وأنا مدرك أننى لاأستطيع أن أفعل شيئا لهذا الشاب ورحت فى دوامة من الخواطر ، وفى خلال تلك الدوامة خيل إلىَّ أننى أسمع رنين الصاجات .. وأرى جسم مديحة .. الشفاف كالبللور وهو ينثنى ويدور .. برقصة بكر .. وخيل إلىَّ أنها ترقص لى وحدى رقصة جديدة .. لم ترقصها من قبل لإنسان ..







=================================
نشرت القصة بصحيفة الشعب فى 1/2/1957 وأعيد نشرها بجموعة قصص لمحمود البدوى بعنوان " حارس البستان "
=================================