الجمعة، ١٧ أبريل ٢٠١٥



نشرت جميع أعمال محمود البدوى فى العنوان

الأربعاء، ٣١ أكتوبر ٢٠٠٧

الخميس، ٢٥ أكتوبر ٢٠٠٧

تذكار ـ قصة قصيرة

تذكار

قصة محمود البدوى

شارع القلعة شارع تاريخى .. ومن أقدم شوارع العاصمة .. وهو شارع طويل وحافل بمختلف الأشياء والسلع .. ففيه توجد دار الكتب المصرية والمكاتب التى تبيع الكتب القديمة والحديثة ودكاكين التجليد الفاخرة والمطابع الصغيرة .. ومحلات الدباغة بكل أنواعها .. والحوانيت التى تبيع الآلات الموسيقية الشرقية والغربية .. والصور الفوتوغرافية ورسوم الزيت والخردوات بكل أشكالها .. ودكاكين البقالة الصغيرة والكبيرة .. ومحلات الحلوى الشعبية .. والمطاعم الصغيرة .. والحانات .. وكل مايحتاجه الإنسان يجده فى هذا الشارع الشعبى ..
والحانات فى هذا الشارع تقع فى المنطقة التى بين دار الكتب وميدان العتبة .. وهى ليست كثيرة .. ولكنها حافلة بالرواد .. لأنها قريبة من مركز الثقل فى المدينة حيث تتركز كل الأعمال الثقيلة فى شارع الأزهر وشارع الجيش .. فبعد عمل شاق يجد الشيالون والعمال أنفسهم مسوقين بقوة لاتقهر إلى المقاهى والحانات .. لينسوا تعب النهار وكده فى الشاى الأسود والخمر ..
وكان الخواجة تاليدس .. يملك حانة صغيرة فى شارع القلعة .. ولما توفى فجأة اضطرت زوجته .. ايرين .. أن تديرها لتأتى برزق الأطفال .. وبعد شهر واحد من موت زوجها روعت بسيل من الأوراق التى لاتدخل فى حسبانها من الجهات الرسمية .. ومن التجار المتعاملين مع زوجها .. حتى فقدت أعصابها وأدركت أنها لاتصلح لهذا العمل ..
وكان يؤلمها أنها لاتعرف لغة هذه الأوراق ..
وفى كل يومين أو ثلاثة .. كان يدخل عليها العسكرى .. متأبطا .. ملفا قديما متسخا يخرج منه ورقة .. يقدمها لها فى غير مبالاة .. وكأنه يقدم لها صك الموت .. ومرة تكون الورقة من الضرائب .. ومرة أخرى من السجل التجارى ومرة من الأحوال الشخصية ..
وكانت تنظر لهذه الأوراق ببلاهة .. وتحدث نفسها .. هل ترك تاليدس كل هذه التركة المثقلة بالديون لى .. وهو يعرف أننى وحيدة .. ولماذا فعل هذا ..؟
وكانت عيناها تدمعان وهى ترى هذه الأوراق فى بيتها وهى وحيدة مع أطفالها ولا نصير لها ولامعين كانت تبكى بحرقة .. وزاد الحال سوءا لما اشتكاها أحد العمال لمصلحة العمل .. ثم حدث ماشل حركتها تماما عندما توقع عليها الحجز من الضرائب ..
وكان من زبائن الحانة .. رجل فى الأربعين من عمره ويدعى شفيق أفندى .. وكان يأتى فى الليل عادة بعد الساعة الثامنة .. مساء ولا يتخلف ليلة .. ويجلس وحده إلى مائدة ملاصقة للبنك الذى تجلس عليه ايرين ..
وكان يشرب البراندى ونظره عالق بها .. يأخذ جرعة ويضع الكأس كأنه يحتسى فنجالا من الشاى فلاحظها ذات ليلة وهى تخفى دموعها وسألها عما حدث فحكت له ايرين كل ما جرى فى الأيام الماضية ..
وقدمت له آخر ورقة .. تركها لها العسكرى فى الصباح .. وطمأنها شفيق أفندى .. وقال لها باخلاص :
ـ سأقوم بكل الإجراءات .. نيابة عنك .. ولاداعى لأن تشغلى نفسك بهذه الأشياء ..
ـ كم أشكرك .. إن هذه الأوراق روعتنى وحطمت أعصابى .. وأنا لا أعرف أى إجراء .. لا أعرف كيف أحل هذه المشاكل كلها .. لا أعرف شيئا على الإطلاق .. وكل من يؤدى لى خدمة يطلب الفلوس .. وليته يأخذ الفلوس ويأتى بنتيجة .. أنا أرملة مسكينة .. أعمل معروفا انقذنى من هذا العذاب ..
ـ لاتفكرى فى هذه الأشياء من الآن .. سأنهيها كلها .. لاتشغلى نفسك بها .. اعتبرينى كالمرحوم ..
وشكرته بحرارة .. وهى تقدر أن عذابها قد انتهى .. ومن هذه الساعة أشرف شفيق أفندى على كل حاجاتها .. وكان يقوم لها بكل الأعمال التى تتصل بالجهات الرسمية .. ويظل يلف فى النهار كالنحلة حتى يخلصها من كل المتاعب ..
وانزاح عنها الحمل الذى كانت تدور به .. وكان يعذبها .. وتفتحت نفسها للحياة من جديد .. وأخذت تبتسم وتتزين ..
وكان يجلس بجانبها كل ليلة يحادثها .. واطمأنت لصوته .. كما اطمأنت لخدماته .. وكان صوته يشيع فيها الدفء .. ورثت لحاله وأشفقت عليه لما عرفت بعض حياته الخاصة .. عرفت بأنه أرمل تزوج منذ خمسة عشر عاما .. ومكثت معه زوجته اسبوعا واحدا ثم هربت .. ومن وقتها وهو فى نزاع معها فى المحاكم .. لأنها حملت منه وأخلفت بنتا ..
ومن الوقت الذى بدأ فيه شفيق يحادث ايرين عن حياته الخاصة .. وهى تشعر بأنها فى حاجة لأن تتزين .. وأن تخفف من مظاهر الحداد على المرحوم ..
وكانت فى الثانية والأربعين من عمرها ممتلئة الجسم بيضاء البشرة سوداء الشعر .. وكانت تأنس بحديث شفيق كل ليلة .. حتى أصبح جزءا من حياتها .. كان يحدثها عن أحواله وآلامه بقلب يتمزق .. كان تعسا على طول الخط لم يشعر بالسعادة قط .. وقد جرته التعاسة إلى الخمر ..
وكانت ترثى لحاله .. وتجد رابطة خفية قد جمعتها به .. وشدتها إليه .. وعندما كانت تجمع نقودها من خزينتها فى الساعة العاشرة مساء وتنطلق إلى بيتها .. القريب .. فى أول شارع الهدارة بعابدين .. بعد أن تسلم المحل لأحد العمال .. كانت تشعر بأسف .. وتود أن تبقى فى المحل إلى نصف الليل .. لأنها تشعر فى البيت .. بوحشة .. وفراغ .. لم تكن تحس بهما فى الحانة ..
وكان أولادها الثلاثة .. يشغلونها فى الصباح .. وهم ذاهبون إلى المدرسة .. ولكن فى الليل .. وهى راجعة .. من المحل .. كانت تجدهم نياما .. وتجد الخادمة بدرية نائمة أيضا .. وكانت تحس بالوحدة القاسية وبهزة فى أعصابها .. كأن شيئا يتمزق فى كيانها ..
وكانت الليالى دافئة .. ولكنها كانت تحس بالبرودة وبالوحشة وبالعذاب الذى يضنيها ..
وبعد موت تاليدس .. بشهرين اثنين عرض عليها أكثر من رجل الزواج .. ولكنها رفضتهم جميعا .. كانت تعرف أنهم يرغبون فى ايراد الحانة وأن أحدا منهم لم يفكر فيها فى الواقع .. كأنثى ..
وكانت تود أن تبقى كما هى دون زواج لتربى الأطفال الصغار .. وكانت تعلم أن أى رجل يدخل فى بيتها .. مهما تكن صفاته وتكن أخلاقه سيشغلها عنهم .. ويتضايق فى الوقت نفسه منهم ..
وكانت تتسلى فى النهار بالعمل .. وبالإشراف على المحل ..
وفى الليل كانت تشعر بالراحة عندما يقبل شفيق .. ويجلس بجوارها .. كانت تشعر بسعادة غامرة .. ولكن هذه السعادة لم تدم .. فذات ليلة لم يحضر شفيق كعادته .. وانقطع فجأة .. وكانت تود أن تعرف بيته لتسأل عنه .. أو حتى تذهب إليه بنفسها فقد خشيت أن يكون مريضا .. ولا يجد من يمرضه ..
واستبد بها القلق .. فكانت تطالع الحوادث فى الصحف .. إذ خشيت أن يكون قد وقع له حادث ..
ومرت الأيام دون أن تراه .. وأخيرا شغلت نفسها بالعمل .. وأحست بأن الأيام زادتها خبرة بعملها واطمأنت لحالها .. وعرفت كيف تدير الحانة وكيف تشترى من التجار .. وكيف تحرك العمل بالابتسامة والمعاملة الحسنة .. وبدأ الحال يزدهر .. وجلبت أحسن أنواع الشاى والبن .. والخمور .. وكانت تشرف بنفسها على نظافة الأدوات .. وكل ما يستعمله الزبائن .. وكان كل شىء يسير على أحسن حال ..
وفى ظهر يوم وهى جالسة على البنك .. فوجئت بشىء طير صوابها ولم يكن فى حسبانها أبدا .. أمر بإغلاق الحانة .. لأن هناك إجراءات لم تتم تتعلق بالرخصة .. فانتهت وأصبحت غير معمول بها .. وإذا كانت ترغب فى فتح الحانة عليها أن تستخرج رخصة جديدة والحكومة لاتفتح حانات جديدة .. فى هذا الحى الشعبى .. لأنها لاتريد أن تجعل هذه السموم قريبة من هذه الأيدى الكادحة .. وذهبت ايرين إلى بيتها .. وهى تبكى .. ولم تستطع أن تمنع عيونها عن البكاء أمام الأطفال ..
وقبل أن يمر أسبوع على إغلاق الحانة طرق عليها شفيق أفندى الباب .. ولم تكن تدرى من الذى دله على العنوان .. واستقبلته فرحة .. وسألته أين كان طوال هذه المدة .. وعرفت أنه كان فى المنصورة ينجز بعض أموره الخاصة .. وكان الجو باردا .. فقدمت له ايرين فنجانا من الشاى .. وحكى لها كيف عرف بإغلاق المحل .. وآلمه الخبر .. فطار إليها .. وبعد حديث طويل معها وهو يتأمل بيتها .. ويتأملها .. وهى فى لباس البيت .. وكانت فى غير ثوب الحداد .. ولم تشأ أن تغير الثوب .. فزادت فى نظره فتنة ..
ونظر إلى عينيها .. وإلى بشرتها النقية .. وإلى جسمها الناضج .. وأحس باضطراب قلبه ..
وكانت جالسة أمامه .. صامتة حزينة .. فرق لحالها .. وكان يفكر فى مخرج لورطتها ..
وقال لها وقد فكر فى الرجل الذى سيلجأ إليه :
ـ هاتى الرخصة .. التى باسم المرحوم زوجك ..
ونهضت ايرين تبحث فى الأوراق حتى عثرت عليها .. وتناولها منها ونهض وهو يقول لها :
ـ اطمئنى وفى أقل من أسبوع .. ستكون الرخصة باسمك وتفتحين المحل ..
ـ ألا تريد نقودا ..؟
ـ لمن ..؟
ـ للرسوم .. والإجراءات .. وللشخص الذى يسهل العمل ..
ـ إن كانت هناك رسوم سأدفعها .. وأطلبها منك وأظنها بسيطة .. أما أن أدفع نقودا لأى شخص .. فهذا لايحدث أبدا لأنى لا ألجأ إلى إنسان ساقط المروءة فى عمل أبدا ..
ـ أنت إنسان نبيل .. ولا بد أن يكون أصحابك كلهم نبلاء مثلك وطيبين ..
ثم عادت تسأله بعد لحظات وكأنها تسترجع نفسها :
ـ ألا تقدم له حاجة أبدا ..؟
ـ أبدا ..
ـ إذن سأقدم لك أنت هدية ..
ـ أحسن هدية أننى أعود أجلس بجوارك هناك .. تحت نظرتك .. الحلوة ..
واحمر وجه ايرين وصمتت ..
وبعد خمسة أيام أتم شفيق أفندى لها الإجراءات الناقصة .. وفتحت المحل ..
وعادت ايرين إلى عملها .. وعاد الحال إلى ازدهاره وكانت كلما رأت شفيقا .. فكرت فى الهدية التى تقدمها له .. نظير خدماته لها ..
وكلما خطر فى بالها شىء وجدت أنه لايليق وفكرت فى غيره فى الحال .. وظلت هذه الخواطر تشغل بالها .. وتعذبها ..
وذات مساء .. وجدته متغير اللون عابسا ووجهه كأنه يتمزق .. فسألته عن السبب ..
فقال بأسى وصوته يتمزق ..
ـ أننى كنت النهار بطوله فى المحكمة الشرعية ..
فنظرت إليه باستغراب .. ولم يخطر على بالها قط أنه لايزال فى منازعات مع زوجته السابقة ..
ـ لماذا ..؟
ـ عندى بنت من زوجتى وقد بلغت الرابعة عشر من عمرها .. ولى ثلاث سنوات وأنا أحاول ضمها ..
ـ ثلاث سنوات ..؟
ـ ثلاث سنوات .. كاملة .. وأنا أتردد على المحاكم ..
ـ لم أكن أعرف .. أن لك بنتا كبيرة هكذا .. إنك فى نظرى لم تتجاوز الثلاثين ..
ـ فى الواقع لقد تزوجت صغيرا .. وتلك هى غلطتى الكبرى .. وإن كنت لم أتزوج إلا على الورق ..
وابتسمت ايرين .. وأشفقت على حاله .. وقالت :
ـ كل إنسان معرض للخطأ .. لأننا بشر ..
ـ ولكن غلطتى لا تغتفر .. لأنى سعيت إليها بكل جوارحى المتفتحة .. ثم مر الحادث كالكابوس المروع .. ومن فرط ما روعت لم أفكر فى أن أكرر المأساة ..
وشرب جرعة كبيرة من كأسه .. ونفث دخان سيجارته .. وقال :
ـ تصورى حال عريس يعود من عمله ويجد عروسه قد أخذت أثاثها وهربت .. تصورى هذا .. وهو ما حدث لى .. عدت من عملى فرحا بلقائها .. فوجدتها قد أخذت أثاث البيت كله .. وهربت به إلى بيت أبيها .. وكان قد مضى على زواجنا أسبوع واحد .. أننى لم أستطع أن أنسى هذا اليوم أبدا وإن مضى عليه أربعة عشر عاما ..
ـ ولماذا لم تترك البنت لأمها ..؟
ـ إنها فى الواقع لا تصلح .. ولا يمكن أن تكون أما لتربى أو تحتضن فتاة فى مثل سن سعاد .. وهى سن خطيرة .. ولكن القاضى يرى العكس .. يرى أنى أنا الذى لا أصلح كأب يحتضن ابنته ..
ـ لماذا ..؟
ـ لأنى سكير ..
واحمر وجه ايرين .. واستطرد شفيق :
ـ ولم يسألنى القاضى لماذا أشرب الخمر .. ولماذا شربتها .. شربتها بسببها هى .. لأنها هى التى حطمت أعصابى .. لم أكن أحب أن أقتلها فقتلت نفسى .. وأبقيت عليها .. كانت أعصابى .. فى حالة ثورة مجنونة لمدة أسبوع كامل .. بعد الذى حدث منها .. فشربت الخمر .. لأخدر أعصابى وأحاول أن أنسى .. ما حدث .. وأنسى حقارتها ولو لم أشرب الخمر لقتلتها .. ولكنى آثرت أن أقتل نفسى ببطء .. خيرا من أن ألوث يدى بدمها ..
ونظرت إليه ايرين بلطف وحنان .. كانت تعرف أنه يتعذب .. وأن الذكرى المؤلمة آلمته ومزقت نفسه .. وأن ما حدث له اليوم فى المحكمة زاده ألما وعذابا .. عندما عرف أنه لا يصلح فى المجتمع كأب .. آلمه هذا .. أكثر وأكثر ..
فلا شىء أفظع من أن يكون الرجل ضائعا فى الحياة لا قيمة له ولا وزن .. بين الناس ..
ونظرت إليه بحنان أكثر .. لما وجدته يطوى ألمه بين ضلوعه مرة أخرى ويعود إلى صمته وإلى الكأس يفرغ فيها أحزانه ..
وكانت تود أن تقول له :
ـ أنس ما حدث .. أنس .. أنس هذه المرأة وابحث عن غيرها .. إن عذابك استمر لأنك لم تبحث عن غيرها .. وكل امرأة .. ترغب فى الزواج منك .. لأنك شاب ووسيم ..
ونظرت إليه .. وفكرت فى أنه لو تقدم للزواج منها فى هذه اللحظة لقبلت على الفور .. مع أنها رفضت كثيرين غيره .. رفضت كل من تقدم إليها ..
ولم تكن تدرى لماذا تقبله على الفور .. الأنه يشعر بالتعاسة مثلها .. ولأن الحياة تمزقه دون ذنب جناه .. ولأنه يتعذب بسبب زوجته وبنته .. وتتعذب بسبب تركة زوجها وأولادها ..
ثم عادت وفكرت فى أنه ليس من جنسها .. ولماذا تتزوج رجلا من غير جنسها ..
وكان هو فى هذه الأثناء يدخن وحده .. يأخذ نفسا طويلا من سيجارته .. ويمسك الكأس بين أنامله بحنان ..
وفى خلال نصف ساعة أحس بأنه خرج من وسط الضباب الذى كان يسبح فيه وحده ووجدها لاتزال على البنك .. فسألها :
ـ ألست مروحة ..؟
ـ لا .. سأنتظر إلى آخر الليل .. أغلق أنا المحل .. عبده روح ..
فعاد يدخن صامتا ..
وكان هناك رجل واحد يجلس إلى مائدة منزوية .. فشرب ثم نهض .. وأخذ الفراش يطوى الكراسى .. ويخفف الضوء ..
***
وكانت ايرين منذ ساعة تنظر إلى شىء هناك من وراء الزجاج فى البوفيه الموضوع فى جانب من المحل .. وكان نظرها يرتد عنه .. ثم يعود إليه .. فى خلال ذلك انتابتها موجة من الإنفعالات فظهر أثرها على وجهها .. ولولا أن أحدا التفت إليها لاكتشف أمرها ولعرف ما تعانيه من عذاب وأخيرا تحركت من مكانها وفتحت البوفيه وأخرجت زجاجة ..
ومسحت عنها التراب بحنان ولفتها فى ورقة ..
كانت زجاجة من نبيذ بوردو النادر جاء بها المرحوم زوجها فى أحد أسفاره .. وأبقتها فى مكانها حتى الساعة .. كأعز تذكار .. كشىء ثمين تحرص عليه .. لأنه يذكرها به .. كانت هذه الزجاجة أعز عليها من كل شىء فى الحياة ..
وعندما كان الفراش ينزل أبواب المحل من الخارج كانت ايرين لاتزال فى الداخل .. وكانت تنظر إلى صورة صغيرة لزوجها معلقة فى الجدار .. وتنهدت ومدت يدها وجعلت وجه الصورة إلى الحائط .. ثم تناولت الزجاجة وأعطتها لشفيق وعيناها تتألقان ببريق فهم معناه ..
وسار بجانبها فى الشارع .. وهو يشعر بسعادة لم يحس بمثلها فى حياته . وكان يعرف أنها ذاهبة به إلى بيتها حتى وإن لم تحدثه عن ذلك صراحة .. وكان متيقنا من ذلك ..
وكان الفرح يغمره .. وكان يمشى كالمأخوذ .. ولكنه يحس بأن عذابه انتهى وأن روحه عادت إليه ..
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشرت القصة فى مجلة " الجيل " بعددها رقم 349 بتاريخ 13/7/1959وأعيد نشرها فى كتاب " عذراء ووحش " سنة 1963
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

السبت، ٢٩ سبتمبر ٢٠٠٧

تذكار ـ قصة قصيرة








تذكار

قصة محمود البدوى

شارع القلعة شارع تاريخى .. ومن أقدم شوارع العاصمة .. وهو شارع طويل وحافل بمختلف الأشياء والسلع .. ففيه توجد دار الكتب المصرية والمكاتب التى تبيع الكتب القديمة والحديثة ودكاكين التجليد الفاخرة والمطابع الصغيرة .. ومحلات الدباغة بكل أنواعها .. والحوانيت التى تبيع الآلات الموسيقية الشرقية والغربية .. والصور الفوتوغرافية ورسوم الزيت والخردوات بكل أشكالها .. ودكاكين البقالة الصغيرة والكبيرة .. ومحلات الحلوى الشعبية .. والمطاعم الصغيرة .. والحانات .. وكل مايحتاجه الإنسان يجده فى هذا الشارع الشعبى ..
والحانات فى هذا الشارع تقع فى المنطقة التى بين دار الكتب وميدان العتبة .. وهى ليست كثيرة .. ولكنها حافلة بالرواد .. لأنها قريبة من مركز الثقل فى المدينة حيث تتركز كل الأعمال الثقيلة فى شارع الأزهر وشارع الجيش .. فبعد عمل شاق يجد الشيالون والعمال أنفسهم مسوقين بقوة لاتقهر إلى المقاهى والحانات .. لينسوا تعب النهار وكده فى الشاى الأسود والخمر ..
وكان الخواجة تاليدس .. يملك حانة صغيرة فى شارع القلعة .. ولما توفى فجأة اضطرت زوجته .. ايرين .. أن تديرها لتأتى برزق الأطفال .. وبعد شهر واحد من موت زوجها روعت بسيل من الأوراق التى لاتدخل فى حسبانها من الجهات الرسمية .. ومن التجار المتعاملين مع زوجها .. حتى فقدت أعصابها وأدركت أنها لاتصلح لهذا العمل ..
وكان يؤلمها أنها لاتعرف لغة هذه الأوراق ..
وفى كل يومين أو ثلاثة .. كان يدخل عليها العسكرى .. متأبطا .. ملفا قديما متسخا يخرج منه ورقة .. يقدمها لها فى غير مبالاة .. وكأنه يقدم لها صك الموت .. ومرة تكون الورقة من الضرائب .. ومرة أخرى من السجل التجارى ومرة من الأحوال الشخصية ..
وكانت تنظر لهذه الأوراق ببلاهة .. وتحدث نفسها .. هل ترك تاليدس كل هذه التركة المثقلة بالديون لى .. وهو يعرف أننى وحيدة .. ولماذا فعل هذا ..؟
وكانت عيناها تدمعان وهى ترى هذه الأوراق فى بيتها وهى وحيدة مع أطفالها ولا نصير لها ولامعين كانت تبكى بحرقة .. وزاد الحال سوءا لما اشتكاها أحد العمال لمصلحة العمل .. ثم حدث ماشل حركتها تماما عندما توقع عليها الحجز من الضرائب ..
وكان من زبائن الحانة .. رجل فى الأربعين من عمره ويدعى شفيق أفندى .. وكان يأتى فى الليل عادة بعد الساعة الثامنة .. مساء ولا يتخلف ليلة .. ويجلس وحده إلى مائدة ملاصقة للبنك الذى تجلس عليه ايرين ..
وكان يشرب البراندى ونظره عالق بها .. يأخذ جرعة ويضع الكأس كأنه يحتسى فنجالا من الشاى فلاحظها ذات ليلة وهى تخفى دموعها وسألها عما حدث فحكت له ايرين كل ما جرى فى الأيام الماضية ..
وقدمت له آخر ورقة .. تركها لها العسكرى فى الصباح .. وطمأنها شفيق أفندى .. وقال لها باخلاص :
ـ سأقوم بكل الإجراءات .. نيابة عنك .. ولاداعى لأن تشغلى نفسك بهذه الأشياء ..
ـ كم أشكرك .. إن هذه الأوراق روعتنى وحطمت أعصابى .. وأنا لا أعرف أى إجراء .. لا أعرف كيف أحل هذه المشاكل كلها .. لا أعرف شيئا على الإطلاق .. وكل من يؤدى لى خدمة يطلب الفلوس .. وليته يأخذ الفلوس ويأتى بنتيجة .. أنا أرملة مسكينة .. أعمل معروفا انقذنى من هذا العذاب ..
ـ لاتفكرى فى هذه الأشياء من الآن .. سأنهيها كلها .. لاتشغلى نفسك بها .. اعتبرينى كالمرحوم ..
وشكرته بحرارة .. وهى تقدر أن عذابها قد انتهى .. ومن هذه الساعة أشرف شفيق أفندى على كل حاجاتها .. وكان يقوم لها بكل الأعمال التى تتصل بالجهات الرسمية .. ويظل يلف فى النهار كالنحلة حتى يخلصها من كل المتاعب ..
وانزاح عنها الحمل الذى كانت تدور به .. وكان يعذبها .. وتفتحت نفسها للحياة من جديد .. وأخذت تبتسم وتتزين ..
وكان يجلس بجانبها كل ليلة يحادثها .. واطمأنت لصوته .. كما اطمأنت لخدماته .. وكان صوته يشيع فيها الدفء .. ورثت لحاله وأشفقت عليه لما عرفت بعض حياته الخاصة .. عرفت بأنه أرمل تزوج منذ خمسة عشر عاما .. ومكثت معه زوجته اسبوعا واحدا ثم هربت .. ومن وقتها وهو فى نزاع معها فى المحاكم .. لأنها حملت منه وأخلفت بنتا ..
ومن الوقت الذى بدأ فيه شفيق يحادث ايرين عن حياته الخاصة .. وهى تشعر بأنها فى حاجة لأن تتزين .. وأن تخفف من مظاهر الحداد على المرحوم ..
وكانت فى الثانية والأربعين من عمرها ممتلئة الجسم بيضاء البشرة سوداء الشعر .. وكانت تأنس بحديث شفيق كل ليلة .. حتى أصبح جزءا من حياتها .. كان يحدثها عن أحواله وآلامه بقلب يتمزق .. كان تعسا على طول الخط لم يشعر بالسعادة قط .. وقد جرته التعاسة إلى الخمر ..
وكانت ترثى لحاله .. وتجد رابطة خفية قد جمعتها به .. وشدتها إليه .. وعندما كانت تجمع نقودها من خزينتها فى الساعة العاشرة مساء وتنطلق إلى بيتها .. القريب .. فى أول شارع الهدارة بعابدين .. بعد أن تسلم المحل لأحد العمال .. كانت تشعر بأسف .. وتود أن تبقى فى المحل إلى نصف الليل .. لأنها تشعر فى البيت .. بوحشة .. وفراغ .. لم تكن تحس بهما فى الحانة ..
وكان أولادها الثلاثة .. يشغلونها فى الصباح .. وهم ذاهبون إلى المدرسة .. ولكن فى الليل .. وهى راجعة .. من المحل .. كانت تجدهم نياما .. وتجد الخادمة بدرية نائمة أيضا .. وكانت تحس بالوحدة القاسية وبهزة فى أعصابها .. كأن شيئا يتمزق فى كيانها ..
وكانت الليالى دافئة .. ولكنها كانت تحس بالبرودة وبالوحشة وبالعذاب الذى يضنيها ..
وبعد موت تاليدس .. بشهرين اثنين عرض عليها أكثر من رجل الزواج .. ولكنها رفضتهم جميعا .. كانت تعرف أنهم يرغبون فى ايراد الحانة وأن أحدا منهم لم يفكر فيها فى الواقع .. كأنثى ..
وكانت تود أن تبقى كما هى دون زواج لتربى الأطفال الصغار .. وكانت تعلم أن أى رجل يدخل فى بيتها .. مهما تكن صفاته وتكن أخلاقه سيشغلها عنهم .. ويتضايق فى الوقت نفسه منهم ..
وكانت تتسلى فى النهار بالعمل .. وبالإشراف على المحل ..
وفى الليل كانت تشعر بالراحة عندما يقبل شفيق .. ويجلس بجوارها .. كانت تشعر بسعادة غامرة .. ولكن هذه السعادة لم تدم .. فذات ليلة لم يحضر شفيق كعادته .. وانقطع فجأة .. وكانت تود أن تعرف بيته لتسأل عنه .. أو حتى تذهب إليه بنفسها فقد خشيت أن يكون مريضا .. ولا يجد من يمرضه ..
واستبد بها القلق .. فكانت تطالع الحوادث فى الصحف .. إذ خشيت أن يكون قد وقع له حادث ..
ومرت الأيام دون أن تراه .. وأخيرا شغلت نفسها بالعمل .. وأحست بأن الأيام زادتها خبرة بعملها واطمأنت لحالها .. وعرفت كيف تدير الحانة وكيف تشترى من التجار .. وكيف تحرك العمل بالابتسامة والمعاملة الحسنة .. وبدأ الحال يزدهر .. وجلبت أحسن أنواع الشاى والبن .. والخمور .. وكانت تشرف بنفسها على نظافة الأدوات .. وكل ما يستعمله الزبائن .. وكان كل شىء يسير على أحسن حال ..
وفى ظهر يوم وهى جالسة على البنك .. فوجئت بشىء طير صوابها ولم يكن فى حسبانها أبدا .. أمر بإغلاق الحانة .. لأن هناك إجراءات لم تتم تتعلق بالرخصة .. فانتهت وأصبحت غير معمول بها .. وإذا كانت ترغب فى فتح الحانة عليها أن تستخرج رخصة جديدة والحكومة لاتفتح حانات جديدة .. فى هذا الحى الشعبى .. لأنها لاتريد أن تجعل هذه السموم قريبة من هذه الأيدى الكادحة .. وذهبت ايرين إلى بيتها .. وهى تبكى .. ولم تستطع أن تمنع عيونها عن البكاء أمام الأطفال ..
وقبل أن يمر أسبوع على إغلاق الحانة طرق عليها شفيق أفندى الباب .. ولم تكن تدرى من الذى دله على العنوان .. واستقبلته فرحة .. وسألته أين كان طوال هذه المدة .. وعرفت أنه كان فى المنصورة ينجز بعض أموره الخاصة .. وكان الجو باردا .. فقدمت له ايرين فنجانا من الشاى .. وحكى لها كيف عرف بإغلاق المحل .. وآلمه الخبر .. فطار إليها .. وبعد حديث طويل معها وهو يتأمل بيتها .. ويتأملها .. وهى فى لباس البيت .. وكانت فى غير ثوب الحداد .. ولم تشأ أن تغير الثوب .. فزادت فى نظره فتنة ..
ونظر إلى عينيها .. وإلى بشرتها النقية .. وإلى جسمها الناضج .. وأحس باضطراب قلبه ..
وكانت جالسة أمامه .. صامتة حزينة .. فرق لحالها .. وكان يفكر فى مخرج لورطتها ..
وقال لها وقد فكر فى الرجل الذى سيلجأ إليه :
ـ هاتى الرخصة .. التى باسم المرحوم زوجك ..
ونهضت ايرين تبحث فى الأوراق حتى عثرت عليها .. وتناولها منها ونهض وهو يقول لها :
ـ اطمئنى وفى أقل من أسبوع .. ستكون الرخصة باسمك وتفتحين المحل ..
ـ ألا تريد نقودا ..؟
ـ لمن ..؟
ـ للرسوم .. والإجراءات .. وللشخص الذى يسهل العمل ..
ـ إن كانت هناك رسوم سأدفعها .. وأطلبها منك وأظنها بسيطة .. أما أن أدفع نقودا لأى شخص .. فهذا لايحدث أبدا لأنى لا ألجأ إلى إنسان ساقط المروءة فى عمل أبدا ..
ـ أنت إنسان نبيل .. ولا بد أن يكون أصحابك كلهم نبلاء مثلك وطيبين ..
ثم عادت تسأله بعد لحظات وكأنها تسترجع نفسها :
ـ ألا تقدم له حاجة أبدا ..؟
ـ أبدا ..
ـ إذن سأقدم لك أنت هدية ..
ـ أحسن هدية أننى أعود أجلس بجوارك هناك .. تحت نظرتك .. الحلوة ..
واحمر وجه ايرين وصمتت ..
وبعد خمسة أيام أتم شفيق أفندى لها الإجراءات الناقصة .. وفتحت المحل ..
وعادت ايرين إلى عملها .. وعاد الحال إلى ازدهاره وكانت كلما رأت شفيقا .. فكرت فى الهدية التى تقدمها له .. نظير خدماته لها ..
وكلما خطر فى بالها شىء وجدت أنه لايليق وفكرت فى غيره فى الحال .. وظلت هذه الخواطر تشغل بالها .. وتعذبها ..
وذات مساء .. وجدته متغير اللون عابسا ووجهه كأنه يتمزق .. فسألته عن السبب ..
فقال بأسى وصوته يتمزق ..
ـ أننى كنت النهار بطوله فى المحكمة الشرعية ..
فنظرت إليه باستغراب .. ولم يخطر على بالها قط أنه لايزال فى منازعات مع زوجته السابقة ..
ـ لماذا ..؟
ـ عندى بنت من زوجتى وقد بلغت الرابعة عشر من عمرها .. ولى ثلاث سنوات وأنا أحاول ضمها ..
ـ ثلاث سنوات ..؟
ـ ثلاث سنوات .. كاملة .. وأنا أتردد على المحاكم ..
ـ لم أكن أعرف .. أن لك بنتا كبيرة هكذا .. إنك فى نظرى لم تتجاوز الثلاثين ..
ـ فى الواقع لقد تزوجت صغيرا .. وتلك هى غلطتى الكبرى .. وإن كنت لم أتزوج إلا على الورق ..
وابتسمت ايرين .. وأشفقت على حاله .. وقالت :
ـ كل إنسان معرض للخطأ .. لأننا بشر ..
ـ ولكن غلطتى لا تغتفر .. لأنى سعيت إليها بكل جوارحى المتفتحة .. ثم مر الحادث كالكابوس المروع .. ومن فرط ما روعت لم أفكر فى أن أكرر المأساة ..
وشرب جرعة كبيرة من كأسه .. ونفث دخان سيجارته .. وقال :
ـ تصورى حال عريس يعود من عمله ويجد عروسه قد أخذت أثاثها وهربت .. تصورى هذا .. وهو ما حدث لى .. عدت من عملى فرحا بلقائها .. فوجدتها قد أخذت أثاث البيت كله .. وهربت به إلى بيت أبيها .. وكان قد مضى على زواجنا أسبوع واحد .. أننى لم أستطع أن أنسى هذا اليوم أبدا وإن مضى عليه أربعة عشر عاما ..
ـ ولماذا لم تترك البنت لأمها ..؟
ـ إنها فى الواقع لا تصلح .. ولا يمكن أن تكون أما لتربى أو تحتضن فتاة فى مثل سن سعاد .. وهى سن خطيرة .. ولكن القاضى يرى العكس .. يرى أنى أنا الذى لا أصلح كأب يحتضن ابنته ..
ـ لماذا ..؟
ـ لأنى سكير ..
واحمر وجه ايرين .. واستطرد شفيق :
ـ ولم يسألنى القاضى لماذا أشرب الخمر .. ولماذا شربتها .. شربتها بسببها هى .. لأنها هى التى حطمت أعصابى .. لم أكن أحب أن أقتلها فقتلت نفسى .. وأبقيت عليها .. كانت أعصابى .. فى حالة ثورة مجنونة لمدة أسبوع كامل .. بعد الذى حدث منها .. فشربت الخمر .. لأخدر أعصابى وأحاول أن أنسى .. ما حدث .. وأنسى حقارتها ولو لم أشرب الخمر لقتلتها .. ولكنى آثرت أن أقتل نفسى ببطء .. خيرا من أن ألوث يدى بدمها ..
ونظرت إليه ايرين بلطف وحنان .. كانت تعرف أنه يتعذب .. وأن الذكرى المؤلمة آلمته ومزقت نفسه .. وأن ما حدث له اليوم فى المحكمة زاده ألما وعذابا .. عندما عرف أنه لا يصلح فى المجتمع كأب .. آلمه هذا .. أكثر وأكثر ..
فلا شىء أفظع من أن يكون الرجل ضائعا فى الحياة لا قيمة له ولا وزن .. بين الناس ..
ونظرت إليه بحنان أكثر .. لما وجدته يطوى ألمه بين ضلوعه مرة أخرى ويعود إلى صمته وإلى الكأس يفرغ فيها أحزانه ..
وكانت تود أن تقول له :
ـ أنس ما حدث .. أنس .. أنس هذه المرأة وابحث عن غيرها .. إن عذابك استمر لأنك لم تبحث عن غيرها .. وكل امرأة .. ترغب فى الزواج منك .. لأنك شاب ووسيم ..
ونظرت إليه .. وفكرت فى أنه لو تقدم للزواج منها فى هذه اللحظة لقبلت على الفور .. مع أنها رفضت كثيرين غيره .. رفضت كل من تقدم إليها ..
ولم تكن تدرى لماذا تقبله على الفور .. الأنه يشعر بالتعاسة مثلها .. ولأن الحياة تمزقه دون ذنب جناه .. ولأنه يتعذب بسبب زوجته وبنته .. وتتعذب بسبب تركة زوجها وأولادها ..
ثم عادت وفكرت فى أنه ليس من جنسها .. ولماذا تتزوج رجلا من غير جنسها ..
وكان هو فى هذه الأثناء يدخن وحده .. يأخذ نفسا طويلا من سيجارته .. ويمسك الكأس بين أنامله بحنان ..
وفى خلال نصف ساعة أحس بأنه خرج من وسط الضباب الذى كان يسبح فيه وحده ووجدها لاتزال على البنك .. فسألها :
ـ ألست مروحة ..؟
ـ لا .. سأنتظر إلى آخر الليل .. أغلق أنا المحل .. عبده روح ..
فعاد يدخن صامتا ..
وكان هناك رجل واحد يجلس إلى مائدة منزوية .. فشرب ثم نهض .. وأخذ الفراش يطوى الكراسى .. ويخفف الضوء ..
***
وكانت ايرين منذ ساعة تنظر إلى شىء هناك من وراء الزجاج فى البوفيه الموضوع فى جانب من المحل .. وكان نظرها يرتد عنه .. ثم يعود إليه .. فى خلال ذلك انتابتها موجة من الإنفعالات فظهر أثرها على وجهها .. ولولا أن أحدا التفت إليها لاكتشف أمرها ولعرف ما تعانيه من عذاب وأخيرا تحركت من مكانها وفتحت البوفيه وأخرجت زجاجة ..
ومسحت عنها التراب بحنان ولفتها فى ورقة ..
كانت زجاجة من نبيذ بوردو النادر جاء بها المرحوم زوجها فى أحد أسفاره .. وأبقتها فى مكانها حتى الساعة .. كأعز تذكار .. كشىء ثمين تحرص عليه .. لأنه يذكرها به .. كانت هذه الزجاجة أعز عليها من كل شىء فى الحياة ..
وعندما كان الفراش ينزل أبواب المحل من الخارج كانت ايرين لاتزال فى الداخل .. وكانت تنظر إلى صورة صغيرة لزوجها معلقة فى الجدار .. وتنهدت ومدت يدها وجعلت وجه الصورة إلى الحائط .. ثم تناولت الزجاجة وأعطتها لشفيق وعيناها تتألقان ببريق فهم معناه ..
وسار بجانبها فى الشارع .. وهو يشعر بسعادة لم يحس بمثلها فى حياته . وكان يعرف أنها ذاهبة به إلى بيتها حتى وإن لم تحدثه عن ذلك صراحة .. وكان متيقنا من ذلك ..
وكان الفرح يغمره .. وكان يمشى كالمأخوذ .. ولكنه يحس بأن عذابه انتهى وأن روحه عادت إليه ..
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشرت القصة فى مجلة " الجيل " بعددها رقم 349 بتاريخ 13/7/1959وأعيد نشرها فى كتاب " عذراء ووحش " سنة 1963
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الثلاثاء، ٢٥ سبتمبر ٢٠٠٧

بائعة العطور ـ قصة قصيرة



بائعة العطور
قصة محمود البدوى



كان الخواجة نعوم يملك محلا صغيرا للعطور وأدوات الزينة فى شارع فؤاد الأول .. وفى خلال الحرب ربح كثيرا مما كان يبيعه من العطور المغشوشة لجنود الحلفاء حتى تضاعفت ثروته وتضخمت ..
فلما انتهت الحرب ورحل الإنجليز عن القاهرة فى غير رجعة انكمشت تجارته وقل زبائنه ووقفت راشيل على باب الحانوت تضحك للمارة وتغريهم بابتسامتها على الدخول .. ولكن هيهات فإن شهرة الخواجة نعوم فى غش العطور كانت قد بلغت الآفاق ..
ولكن على الرغم من هذا كله فقد ثبت الخواجة نعوم فى الميدان ، ووسع واجهة المحل وزينها بأنوار النيون .. وبنى لنفسه دورا علويا صغيرا من الداخل .. اتخذ منه مكتبا له ومخزنا للعطور ..
وكان المكتب عبارة عن غرفة صغيرة أنيقة أحاطها بالستر وزينها بالصور وجعل فيها أريكة طويلة فقد كان الخواجة نعوم ينام أحيانا وقت الظهيرة فى هذا المكان ..
وفى مساء يوم رأى وهو واقف خلف الطاولة ثلاثة يقفون على واجهة المحل يستعرضون ما فيها من بضائع .. واقترب منهم وحدق فيهم وسمع لغتهم .. فسال لعابه لقد كانوا ثلاثة من الجنود الإنجليز فى ملابس مدنية ..
وغمز لراشيل بعينه فخرجت واقتربت منهم .. وبعد أقل من دقيقة كان الجنود الثلاثة فى داخل الحانوت ..
وعرضت راشيل وزميلتها مارى على الجنود أحسن ما فى المتجر من بضائع .. واستطاعت راشيل بابتسامتها ولباقتها وطريقتها فى عرض الأشياء أن تغرى الجنود بالشراء فاشتروا زجاجات عطر وأدوات زينة للسيدات وجوارب ومناديل ومحافظ جلدية . وسر الخواجة نعوم لهذا وكاد يرقص من الفرح وأجلس الجنود داخل المحل وطلب لهم قهوة ..
وجلس الجنود يتحدثون مع راشيل إلى أن تجىء القهوة وسأل ماك :
ـ أيوجد تليفون هنا ..؟
وأجابه الخواجة نعوم :
ـ نعم .. فوق ..
وأشار إلى راشيل وصعدت مع ماك السلم الداخلى الصغير المؤدى إلى غرفة المكتب ومكث ماك مع راشيل فى هذه الغرفة كثيرا وطال انتظار أصحابه ..
وأخيرا نزل وخلفه راشيل وكان يبتسم لرفيقيه مزهوا ..
وبعد ساعة كان الجنود الثلاثة فى القطار العائد بهم إلى الإسماعيلية ..
وأخرج ماك من جيبه صورة فى حجم الكارت بوستال وعرضها على زميليه ..
كانت صورة راشيل وهى فى لباس البحر ..
وقال فى فخر :
ـ لقد كان هذا الجسم لى منذ ساعة ..
ونظر إليه صديقاه فى غيظ وحسد وأخذ هو يضحك .. لقد كانت راشيل فاتنة بحق .. وفتح محفظته ليعيد إليها الصورة وكان لايزال يضحك ..
وفجأة صرخ ..
لقد اكتشف سرقة الأوراق المالية التى فى المحفظة ..
لقد وضعت له راشيل صورتها الجميلة فى المحفظة .. ولكنها أخذت بدلها جميع ما فيها من نقود ..
وضحك صديقاه فى هذه المرة .. وظلا يضحكان منه طول الطريق ..!
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشرت القصة فى مجلة القصة ـ العدد 80 بتاريخ 20/1/1953 وأعيد نشرها فى كتاب قصص قصيرة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

بنسيون منيرفا ـ قصة قصيرة



بنسيون منيرفا
قصة محمود البدوى



اشتغلت فى أول عهدى بالحياة فى شركة الحاج عبد الصمد للتجارة والملاحة الدولية بالسويس ..
وكان الحاج عبد الصمد هذا أميا لايقرأ ولا يكتب ، ولكنه يحمل فى رأسه عقل " شاخت " ..
وكان متعهد جميع البواخر التى تمر بمدينة السويس ، يفرغ منها البضائع ويمونها بالأغذية والأطعمة المجففة ، وكنا نعمل فى الميناء من الصباح إلى المساء ، ونظل نتعهد الباخرة حتى ترفع السلم وتدور محركاتها وتنطلق فى عرض البحر ..
وكنت شغوفا بهذا العمل مرتاحا إليه .. لأننى اختبرت فى خلاله الحياة والناس عن قرب ، فقد كنت أصعد على ظهر المركب واختلط بالركاب وأشاهد ألوفا مختلفة من الناس من كل جنس ولون .. ولقد أصبحت لطول اختبارى أستطيع أن أميز الإنجليزى من الأمريكى من الفرنسى من الهولاندى من الصينى .. دون أن ينطق بحرف .. فلكل من هؤلاء خصائصه التى تتميز بها الشعوب ..
وكنت أفرغ من العمـل فى السـاعة التاسعة مساء .. وأجلس فى
مشرب من مشارب الجعة لأتعشى .. ثم أذهب إلى البنسيون الذى أقيم
فيه ، وكان يسمى بنسيون " منـيرفا " وهو بنسيون صغير فى قلب المدينة ، وكنت أسكن مع أسرة أجنبية ، واخترت غرفة منعزلة لها باب داخل البنسيون وآخر مستقل .. وكانت الأسرة تؤجر ثلاث غرف أخرى لبعض النزلاء .. كانت مؤجرة غرفة لشخص يدعى محروس أفندى وكان قصير القامة ، ناحل الجسم لا يزن أكثر من ثمانين رطلا ، ولكنه استعاض عن هذا النقص بما يكمله ، فقد كانت له زوجه فى حجم الفيل .. وقد جاءت هذه الزوجة من بور سعيد لتزوره فقط لأن إقامة زوجها فى السويس كانت مؤقته .. ولكنها استطابت الحياة فى البنسيون فبقيت شهرا وشهرين وثلاثة .. وقد أخذت هذه الزوجة منذ الاسبوع الأول من سكناى تغازلنى بشكل مفضوح ..! ولم يكن وقتى وعملى يتسعان للحياة العابثة إطلاقا ، فكنت أقابل مغازلاتها بإعراض وصدود ، ولكنها مع هذا لم تيأس واستمرت فى هجومها ، وكانت صاحبة البنسيون أرملة فى الخمسين من عمرها .. ولها بنتان ، واحدة متزوجة وتقيـم فى بور توفيق .. وأخرى دون العشرين بقليل وتقيم معها .. واسمها لندا .. وكانت لندا جميلة تجيد العزف على البيان ..
وكان هناك عجوز لا عمل له يشغل غرفة من الغرف ، وكان يتكلم كل لغات الأرض ، فقد كان قبطانا فى الميناء ، وكان دائم القعود فى البيت ، يدخن ويسكر ، وينطلق لسانه بكلام لامعنى له عن حرية الشعوب ، وحرية الملاحة فى البحار ، وعن الرجال الأفذاذ الذين نسيهم التاريخ ..
وكانت هناك سيدة إنجليزية تشغل غرفة صغيرة فى الطرقة ، وكانت تعمـل فى شركة من شركات البترول ، ولم يكن جميلة ولا قبيحة ، وكانت مغرمة بالشراب ، تشرب الويسكى على الريق ..
وكنا نجتمع فى يوم الأحد ، وهو يوم الراحة لنا جميعا على المائدة ونتغدى ونشرب ونتحدث .. ونستمع بعد الغداء إلى لندا وهى تعزف على البيان ، وإلى غناء القبطان وإلى حديث السيدة الإنجليزية عن الحياة فيما وراء البحـار ، وكان القبطان يغنى أغنية واحدة بالإيطالية ويكررها ، وكان صوته قبيحا ، وكانت معانى الأغنية السامية تبتذل من طريقته فى الالقاء ، ومن صوته الكريه .. وكان يخيل إلينا أنه يخص لندا وحدها بالغزل والغناء ، وكان إذا فرغ من الغناء ابتعد عن المجلس وجلس فى ركن مظلم من الردهة يدخن ويحدق فى الفتاة ويضع رأسه على راحته ويفكر ..
وكانت لندا تحادث الجالسين جميعا فى مرح وغبطة إلا هو ، فإذا وجه إليها كلاما امتقع وجهها وردت عليه فى جفاء ظاهر .. وكانت زوجة محروس أفندى أكثر نزلاء البنسيون مرحا وسرورا بهذا اليوم ، وكانت تطبخ لنا الأرز بالسمك .. وتضع أمامى الطبق وتسألنى رأيى .. وكنت أتعمد إغاظتها وأقول لها أنه ردىء .. وإننى أكلت أحسن منه فى الكازينو ، فكانت تزم شفتيها وتصمت حتى نفرغ من الطعام .. وكان زوجها يشتغـل فى الجـمرك ، ويعمل أسبوعا فى الليل وأسبوعا فى النهار .. وكانت حجرتها ملاصقة لحجرتى ، وبيننا باب مغلق وراءه دولاب صغير للملابس من السهل أن تحركه من مكانه . فكنت خلال الأسبوع الذى يتغيب فيه زوجها ، أخشى أن تدفعها الرغبة إلى فتح الباب ، والتسلل إلى غرفتى فى ظلام الليل .. ولم أكن أشعر نحوها بأى عاطفة مما يحسه الرجل نحو المرأة .. كنت صغيرا لم أتجاوز الثامنة عشرة من عمرى ، وكان العمل المرهق يستغرق كل وقتى وكل طاقتى .. وكنت أعود إلى البيت تعبا وأستغرق فى نوم عميق ولا أحس بشىء مما حولى إلى الصباح ..
وكانت المرأة تلاحقنى وتتقصى أخبارى .. وعجبت إذ رأيتها بعد أسبوع واحد من نزولى فى البنسيون قد عرفت كل شىء عنى .. عرفت من أين جئت ، وأين أشتغـل ، وما هو أجرى ، والمطعم الذى أتغدى فيه .. والمشرب الذى أشرب فيـه الجعة ، والحلاق الذى يقص لى شعرى .. وقد أبغضتها لهذا الفضول ..
وكانت الإنجليزية تعـود إلى البنسـيون متأخرة فى الليل مثلى ..
كانت تسهر فى نادى الشركة ، وكانت غرفتى كمـا وصفت مستقلة
ولها باب على السلم ، وكنت أدخل البنسيون بمفتاح معى من الباب الكبير ، لأننى لا أستطيع أن أمر على غرفة محروس أفندى وزوجته ..
واستيقظت ذات ليلة على نقر خفيف على الباب .. فتصورت أن زوجة محروس أفندى تنقر على الباب الذى بينى وبينها .. فتناومت ، وعاد النقر من جـديد .. وتسمعت وتبينت أنه على باب الغرفة الخارجى .. فنهضت وفتحت الباب .. فألفيت السيدة الإنجليزية على العتبة .. وقالت :
" أرجو المعذرة لإزعاجك .. فقد طرقت باب البنسيون فلم يرد علىَّ أحد .. ولا أحب أن أزعجهم أكثر من ذلك .. فتكرم علىَّ بالمفتاح الذى معك " ..
فتركتها واقفة فى مدخل الباب وأخذت أبحث عن المفتاح فى المكان الذى اعتدت أن أضعه فيه .. وطال بحثى ..
فقالت لى بصوت رقيق :
ـ ألا تجده ..؟
ـ آسف يا سيدتى .. تفضلى قليلا بالجلوس إلى أن أعثر عليه ..
ودخلت وجلست على كرسى قريب من الباب .. وبحثت فى كل جيوبى وفى كل الأدراج ، فلم أعثر على المفتاح ..
وقلت لها بعد اليأس :
ـ سأقرع أنا الباب ..
فقالت بلهجة مؤكدة :
ـ لا داعى لذلك يا اسماعيل أفندى .. وإن فعلت هذا سأذهب إلى أى فندق ..
ووقفت حائرا .. وسمعتها تقول :
ـ سأنام على هذا الكرسى .. إلى الصباح ..
فقلت لها :
ـ بل أنا الذى سينام عليه ..
وطال حوارنا .. وأخيرا رضيت بأن تحتل مكانى وأطفأت النور .. وأغلقت عينى .. وأحسست بها وهى تخلع ملابسها فى الظلام .. ثم ذهبت إلى السرير .. ومضت فترة طويلة ، وكان الظلام والسكون يخيمان على جو الغرفة .. ثم شعرت بها تتقلب على السرير ونزلت من فوقه فى هدوء .. واقتربت منى .. وشممت من فمها رائحة الخمر ..
***
وفى يوم الأحد جلسنا جميعا حول مائدة الغداء .. فنظرت إلىَّ زوجة محروس أفندى وقالت :
ـ كان فيه حرامى بيخبط عليك أول امبارح بالليل يا إسمـاعيل
أفندى ..
ـ حرامى ..؟
ـ أيوه .. حرامى ..
ـ محستش بحاجة ..
ـ لازم أنا كنت بحلم ..
ونظرت إلىَّ وإلى الإنجـليزية فى خبث .. واتجهـت إلينا جميع الأنظار ..
***
وكان القبطان لايزال متيما بابنة صاحبة البنسيون ويكاد يجن بها ..
وفى غروب يوم من أيام الصيف دخلت الفتاة الحمام لتستحم .. وكانت تتصور أن الجميع فى الخارج .. فتركت باب الحمام مفتوحا ، ووقفت تحت الدش وأخذت تغنى ..
وسمعها القبطان وكان فى غرفته وقد أغلق عليه بابه .. وخرج إليها فى هدوء يتلصص حتى دخل عليها الحمام وهى عارية .. وصرخت الفتاة .. وجـاء على صوتها جميع سكان العمارة وأخذوا يضربون الرجل .. وكان أكثرهم ضربا له زوجة محروس أفندى ..!
====================================
نشرت القصة فى صحيفة الزمان 15/8/1950 وأعيد نشرها بمجموعة قصص لمحمود البدوى بعنوان " حدث ذات ليلة "

حلاق للسيدات ـ قصة قصيرة



حلاق للسيدات
قصة محمود البدوى



كان ميخاليدس حلاقا يونانيا مشهورا فى شارع سليمان باشا ، وكان حانوته ملتقى السيدات المصريات والأجنبيات الأنيقات فى المجتمع ، ومن الساعة السادسة مساء لاتجد فى محله كرسيا خاليا ..
وغالبا ما تجد سيدة أو أكثر جالسة فى مدخل الحانوت فى انتظار دورها ، وتصافح أنفك وأنت مار فى هذا الشارع وعلى بعد ثلاث خطوات من الحانوت رائحة العطور العبقة ، وتسمع حوار السيدات الممتع ، وحركة المراوح الكهربائية وصوت آلات التجميل ، وهى تصلح ما أفسده الدهر ..!
وترى السيدات يخرجن من " الصالون " إلى المراقص والملاهى الليلية وهن يبهرن الأبصار ..
وكانت زينات هانم من " زبائن " هذا الحلاق " الدائمات " كانت تأتى إليه مرتين فى الأسبوع على الأقل لتتزين ، وكانت من الثريات وزوجها عضو مجلس إدارة فى أكبر بنك فى المدينة ، وفى أربع شركات كبرى ، ومع أنه لايتمتع بذهن اقتصادى ، ولا بعقل جبار ، ولا بشىء يؤهله لهذه المناصب فقد غدا من كبار رجال الأعمال .. وهكذا تجرى الحظوظ والأقدار ..
وكانت زينات هانم تعيش معه فى شبه عزلة ولا تراه إلا قليلا ، فقد كان عمله يستغرق كل وقته وكل جهده .. وكانت قد تجاوزت سن الأربعين بكثير واقتربت من سن اليأس عند المرأة ، وفى هذه السن تبدو المرأة عصبية قلقة مضطربة ، ولهذا كانت تذهب إلى الحلاق وتجلس على الكرسى الضخم ، وهى فى أشد حالات القلق والتوتر العصبى ..
وكان صاحب المحل يستقبلها مرحبا محنيا ظهره مقدما إليها أحسن عماله ، ولكنها كانت تستقبل العامل المسكين بوجه عابس ، وإذا فرغ من " التسريحة " ولاحظت أنها لاتوافق مزاجها واستدارة وجهها نظرت إليه شزرا وأخذت تسبه ، وكان صاحب الحانوت يستقبل هذا السباب دائما بابتسامة من فمه وانحناءة من رأسه ، ويجلسها على كرسى آخر ويتولى بنفسه إصلاح الأمور ..! فقد كانت زينات هانم من كرائم السيدات ومن أحسن عملائه ..
وذات يوم جاءت كعادتها وكان فى المحل عامل جديد وهو شاب فى السادسة والعشرين من عمره قوى الجسم موفور الصحة ، وجلست على الكرسى ونظرت إليه ، وأزاح شعرها إلى الوراء وابتدأ يعمل ..
وكان من عادتها أن تحرك رأسها يمينا وشمالا أثناء الحلاقة ولا يجرأ واحد من العمال على أن يلفت نظرها إلى هذه العادة الذميمة .. ولكن هذا العامل لفت نظرها بصوت قوى ، فأمسكت برأسها كأنها تمثال ..
وشعرت بأنامله وهى تمسح على شعرها ، ورأت وجهه فى المرآة أمامها فنظرت إليه وصمتت ، وظلت وادعة ساكنة حتى فرغ من الحلاقة فرنت إليه مبتسمة ممتنة ..
ولما أخذت طريقها إلى الخارج وضعت فى يده ورقة مالية من ذات العشرة القروش فتناولها شاكرا ..
وفى اليوم التالى جاءت على غير عادة ..! وكان العامل الجديد مشغولا فانتظرته إلى أن يفرغ من عمله ، واستقبلته باسمة ..
وكانت أكثر هدوءا ووداعة ..
وأغلقت عينيها وسبحت فى عالم الأحلام أكثر من مرة عندما كانت أنامل حسن تجرى فى شعرها ، ولما أكملت زينتها ناولته ورقة مالية أخرى فانحنى ممتنا ..
***
وذات يوم دق جرس التليفون عند الحلاق .. وسمع ميخاليدس صوت زينات هانم وهى تقول بصوت ناعم :
ـ تسمح تبعت لى حسن بكره الساعة خمسة .. فى البيت .. خمسة تمام .. علشان فيه حفلة خيرية ومش حاقدر أمر عليك ..
ـ حاضر يا هانم ..
ووضع ميخاليدس السماعة .. وكتب فى دفتر مذكراته شيئا ..
***
وفى الساعة الخامسة من مساء اليوم التالى ، وقف حسن على باب السيدة زينات هانم وقرع الجرس ، وفتح له خادم أنيقة الباب .. وقادته إلى الداخل ، وجلس صامتا مأخوذا بما حوله من رياش وتحف ..
وبعد قليل جاءت السيدة .. وأدخلته فى غرفة زينتها ..
وحلت شعرها وجلست أمام المرآة الكبيرة .. وأخذ حسن يمشط هذا الشعر فى عناية ودقة .. وأنامله تجرى وراء المشط واستراحت زينات لعمله ، وشعرت بحواسها كلها تتخدر .. ثم أغلقت عينيها وراحت فى حلم ممتع ، وبعد فترة طويلة سألته فى رقة :
ـ مبسوط عند ميخاليدس ..؟
ـ أيوه ..
ـ إن كنت عاوز حاجة قوللى ..
ـ مرسى يا هانم ..
ـ مجوز ..
ـ لا .. ياهانم ..
ـ ليه .. لأ ..
ـ .....
ـ خايف من النسوان ..؟
ـ ......
وصمت حسن وانهمك فى عمله فصمتت .. ثم رآها فى المرآة وهى تديم النظر إليه فى سكون ، فأخذ يرجل شعرها وقد غض من طرفه .. وتركته فى شأنه ، وأغلقت عينيها وسبحت بها الأحلام ، وأقبلت بها المناظر الممتعة وأدبرت ، وتصورته مرة يلثم شعرها .. وأخرى يقبل عنقها من الخلف .. ومرة أخرى ينحنى بكليته عليها فترفع وجهها إليه وتعطيه شفتيها ..
واستفاقت من حلمها على صوته وهو يغلق حقيبته ..
فقالت فى أسف :
ـ خلاص ..؟
ـ خلاص يا هانم ..
ـ مرسى خالص ..
ونهضت من كرسيها ومشت معه نحو باب الحجرة .. وعز عليها أن يتركها هكذا سريعا فتوقفت لحظة عند الباب ومدت يدها فأمسك بها فى راحته وانحنى ليصافحها .. فرفعتها فى حركة سريعة دون وعى منها إلى شفتيه وألصقتها بهما ..
ورفع رأسه ونظر إلى عينيها ورآها تبتسم فى إغراء وفتنة فانحنى ليقبل يدها مرة أخرى ..
فمالت عليه وأعطته ثغرها ..
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشرت القصة فى صحيفة الزمان 18/7/1950 وأعيد نشرها فى كتاب " حدث ذات ليلة "