الثلاثاء، ٢٥ سبتمبر ٢٠٠٧

حلاق للسيدات ـ قصة قصيرة



حلاق للسيدات
قصة محمود البدوى



كان ميخاليدس حلاقا يونانيا مشهورا فى شارع سليمان باشا ، وكان حانوته ملتقى السيدات المصريات والأجنبيات الأنيقات فى المجتمع ، ومن الساعة السادسة مساء لاتجد فى محله كرسيا خاليا ..
وغالبا ما تجد سيدة أو أكثر جالسة فى مدخل الحانوت فى انتظار دورها ، وتصافح أنفك وأنت مار فى هذا الشارع وعلى بعد ثلاث خطوات من الحانوت رائحة العطور العبقة ، وتسمع حوار السيدات الممتع ، وحركة المراوح الكهربائية وصوت آلات التجميل ، وهى تصلح ما أفسده الدهر ..!
وترى السيدات يخرجن من " الصالون " إلى المراقص والملاهى الليلية وهن يبهرن الأبصار ..
وكانت زينات هانم من " زبائن " هذا الحلاق " الدائمات " كانت تأتى إليه مرتين فى الأسبوع على الأقل لتتزين ، وكانت من الثريات وزوجها عضو مجلس إدارة فى أكبر بنك فى المدينة ، وفى أربع شركات كبرى ، ومع أنه لايتمتع بذهن اقتصادى ، ولا بعقل جبار ، ولا بشىء يؤهله لهذه المناصب فقد غدا من كبار رجال الأعمال .. وهكذا تجرى الحظوظ والأقدار ..
وكانت زينات هانم تعيش معه فى شبه عزلة ولا تراه إلا قليلا ، فقد كان عمله يستغرق كل وقته وكل جهده .. وكانت قد تجاوزت سن الأربعين بكثير واقتربت من سن اليأس عند المرأة ، وفى هذه السن تبدو المرأة عصبية قلقة مضطربة ، ولهذا كانت تذهب إلى الحلاق وتجلس على الكرسى الضخم ، وهى فى أشد حالات القلق والتوتر العصبى ..
وكان صاحب المحل يستقبلها مرحبا محنيا ظهره مقدما إليها أحسن عماله ، ولكنها كانت تستقبل العامل المسكين بوجه عابس ، وإذا فرغ من " التسريحة " ولاحظت أنها لاتوافق مزاجها واستدارة وجهها نظرت إليه شزرا وأخذت تسبه ، وكان صاحب الحانوت يستقبل هذا السباب دائما بابتسامة من فمه وانحناءة من رأسه ، ويجلسها على كرسى آخر ويتولى بنفسه إصلاح الأمور ..! فقد كانت زينات هانم من كرائم السيدات ومن أحسن عملائه ..
وذات يوم جاءت كعادتها وكان فى المحل عامل جديد وهو شاب فى السادسة والعشرين من عمره قوى الجسم موفور الصحة ، وجلست على الكرسى ونظرت إليه ، وأزاح شعرها إلى الوراء وابتدأ يعمل ..
وكان من عادتها أن تحرك رأسها يمينا وشمالا أثناء الحلاقة ولا يجرأ واحد من العمال على أن يلفت نظرها إلى هذه العادة الذميمة .. ولكن هذا العامل لفت نظرها بصوت قوى ، فأمسكت برأسها كأنها تمثال ..
وشعرت بأنامله وهى تمسح على شعرها ، ورأت وجهه فى المرآة أمامها فنظرت إليه وصمتت ، وظلت وادعة ساكنة حتى فرغ من الحلاقة فرنت إليه مبتسمة ممتنة ..
ولما أخذت طريقها إلى الخارج وضعت فى يده ورقة مالية من ذات العشرة القروش فتناولها شاكرا ..
وفى اليوم التالى جاءت على غير عادة ..! وكان العامل الجديد مشغولا فانتظرته إلى أن يفرغ من عمله ، واستقبلته باسمة ..
وكانت أكثر هدوءا ووداعة ..
وأغلقت عينيها وسبحت فى عالم الأحلام أكثر من مرة عندما كانت أنامل حسن تجرى فى شعرها ، ولما أكملت زينتها ناولته ورقة مالية أخرى فانحنى ممتنا ..
***
وذات يوم دق جرس التليفون عند الحلاق .. وسمع ميخاليدس صوت زينات هانم وهى تقول بصوت ناعم :
ـ تسمح تبعت لى حسن بكره الساعة خمسة .. فى البيت .. خمسة تمام .. علشان فيه حفلة خيرية ومش حاقدر أمر عليك ..
ـ حاضر يا هانم ..
ووضع ميخاليدس السماعة .. وكتب فى دفتر مذكراته شيئا ..
***
وفى الساعة الخامسة من مساء اليوم التالى ، وقف حسن على باب السيدة زينات هانم وقرع الجرس ، وفتح له خادم أنيقة الباب .. وقادته إلى الداخل ، وجلس صامتا مأخوذا بما حوله من رياش وتحف ..
وبعد قليل جاءت السيدة .. وأدخلته فى غرفة زينتها ..
وحلت شعرها وجلست أمام المرآة الكبيرة .. وأخذ حسن يمشط هذا الشعر فى عناية ودقة .. وأنامله تجرى وراء المشط واستراحت زينات لعمله ، وشعرت بحواسها كلها تتخدر .. ثم أغلقت عينيها وراحت فى حلم ممتع ، وبعد فترة طويلة سألته فى رقة :
ـ مبسوط عند ميخاليدس ..؟
ـ أيوه ..
ـ إن كنت عاوز حاجة قوللى ..
ـ مرسى يا هانم ..
ـ مجوز ..
ـ لا .. ياهانم ..
ـ ليه .. لأ ..
ـ .....
ـ خايف من النسوان ..؟
ـ ......
وصمت حسن وانهمك فى عمله فصمتت .. ثم رآها فى المرآة وهى تديم النظر إليه فى سكون ، فأخذ يرجل شعرها وقد غض من طرفه .. وتركته فى شأنه ، وأغلقت عينيها وسبحت بها الأحلام ، وأقبلت بها المناظر الممتعة وأدبرت ، وتصورته مرة يلثم شعرها .. وأخرى يقبل عنقها من الخلف .. ومرة أخرى ينحنى بكليته عليها فترفع وجهها إليه وتعطيه شفتيها ..
واستفاقت من حلمها على صوته وهو يغلق حقيبته ..
فقالت فى أسف :
ـ خلاص ..؟
ـ خلاص يا هانم ..
ـ مرسى خالص ..
ونهضت من كرسيها ومشت معه نحو باب الحجرة .. وعز عليها أن يتركها هكذا سريعا فتوقفت لحظة عند الباب ومدت يدها فأمسك بها فى راحته وانحنى ليصافحها .. فرفعتها فى حركة سريعة دون وعى منها إلى شفتيه وألصقتها بهما ..
ورفع رأسه ونظر إلى عينيها ورآها تبتسم فى إغراء وفتنة فانحنى ليقبل يدها مرة أخرى ..
فمالت عليه وأعطته ثغرها ..
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشرت القصة فى صحيفة الزمان 18/7/1950 وأعيد نشرها فى كتاب " حدث ذات ليلة "

ليست هناك تعليقات: